أساطير عربية منذ الجاهلية
في البلدان التي توجد فيها جبال شامخة أو صحار شاسعة أو وديان سحيقة أو غابات كثيفة أو أبنية قديمة أوقلاع وحصون، تنتشر قصص الجن والشياطين. وتحتل أخبار الجن وقصصها حيزا كبيرا من آداب الشعوب في شتى أنحاء العالم. في الأدب الألماني تكثر الأساطير والخرافات حول الغابة السوداء، وفي شبه الجزيرة العربية يكثر هذا النوع من الأساطير لوجود صحار شاسعة فيها. وفي مصر تحتل الأهرامات والآثار الفرعونية نصيبا طائلا في ذلك.
قصص الجن من الأحاديث التي كانت وما زالت العامل المشترك في غالب مجالس السمر. فالكلام عنها من الأحاديث التي يميل لسماعها الناس لما فيها من غريب وطريف واختراع. وللأعراب خاصة في الجن قصص وحكايات، وقد ذكر الجاحظ أن الأعراب يتزيدون في هذا الباب. في الجاهلية كانوا يزعمون أن لكل شاعر رئي من الجن يساعده في نظم الشعر، ويوردون بعض الردود والأشعار المتبادلة بين الإنس والجن. وللشعراء الصعاليك قصص طريفة مع الجن، من أشهرها ما نجده في أشعار تأبط شرا، فقد ذكر في شعره أنه لقي الغول فقتلها، وأورد حوارا جميلا دار بينهما في قصيدته مطلعها:
ألا من مبلغ فتيان قومي
بما لاقيت عند رحى بطانِ
بأني قد لقيت الغول تسعى
بسهب كالصحيفة صحصحانِ
وله قصيدة أخرى يذكر فيها أن الغول هربت خوفا منه فطاردها حتى قتلها.
فأصبحت والغول لي جارة
فيا جارتا أنتِ ما أهولا
وطالبتها بصفها فالتوت
بوجه تهوّل فاستغولا
فقلت لها انظري كي تري
فولت فكنت لها أغولا
فطار بقحف ابنة الجن ذو
سفاسف قد أخلق المحملا
والقحف عظم الرأس: يقصد أن سيفه ذا السفاسف قد أطار رأس ابنة الجني. أما أبو المطراد أو المطراب العنبري، وهو شاعر إسلامي فكان لصا جنى جناية فهرب من السلطان، وخلعه قومه، فهام على وجهه في الصحراء، وأخبر في شعره أنه يرافق الغول والسعلاة ويبايت الذئاب والأفاعي، ويأكل مع الظباء. وهناك بيت مشهور يرويه أهل اللغة والبلاغة، زعموا أن الجن قالته، وذلك لصعوبته:
وقبر حرب بمكان قفر
وليس قرب قبر حرب قبر
وقائله مجهول، فلما رأوا صعوبة إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد دون تعتعة ولجلجة، قالوا إنه من شعر الجن. وقبيل وأثناء مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الشعر المنسوب إلى الجن والهواتف والمبشرة بقرب ظهور نبي أو بظهوره. كما في قصة راشد السلمي التي رواها عن سبب إسلامه وما سمعه من هاتف يصرخ في جوف الصنم بظهور نبي. وذكر الإخباريون أن شاعرا من الجن هو مالك بن مالك الجني فقد زعموا أن خريم بن فاتك الأسدي خرج في بغاء إبل له فأصابها بالأبرق فقال أعوذ بعظيم هذا الوادي فإذا هاتف يهتف:
ويحك عذ بالله ذي الجلال
منزّل الحلال والحرامِ
فقال خريم
يا أيها الداعي فما تحيل
أرشد عندك أم تضليل
فقال الهاتف: هذا رسول الله ذو الخيرات، فقال خريم من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا مالك بن مالك بعثني رسول الله على جن أهل نجد.
وروى أهل الأخبار شعرا لشاعر آخر من الجن اسمه مالك بن مهلهل بن إياد ويقال دثار، زعموا أنه أحد من أسلم من الجن، رووا له قصة مع رافع بن عمير التميمي المعروف بـ "دعموص الرمل" لأنه كان أعرف الناس لطريق وأسراهم بليل وأهجمهم على هول، وضرب فيه المثل فقيل: "أهدى من دعيميص الرمل" وقد دخل دعموص الرمل رمل عالج فقال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن أن أؤذى أو أهاج، فهتف به هذا الجني الشاعر، وأمره أن يذهب إلى يثرب ليسلم أمام الرسول. وهناك خبر يروى من حديث قس بن ساعدة عن جن تبادلت الشعر. وذكروا أن الجن هي التي قتلت الصحابي الجليل سعد بن عبادة ـــ رضي الله عنه، وقالت الجن شعرا في ذلك:
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين فلم نخط فؤاده
بينما الحقيقة أنه وجد ميتا في مغتسله ـــ رضي الله عنه، وليس كما قالوا، فلا سهم ولا سهمين، وهذا الخبر مردود مرفوض عند العلماء المحققين. وجل ما يروى من هذا القبيل لا يصح عند التحقيق.
وفي كتب الأدب والأخبار والتاريخ قصص كثيرة وطرف من أشعار الجن والغيلان والسعالي وطُرف من أخبارهم وأحاديثهم مع الإنس، بل رووا حكايات عن زواج جرى بين الإنس والجن، ونقلت هذه المواضيع إلى كتب الفقه حيث اختلف فيها الفقهاء.
وفي رسالة الغفران للعبقري أبي العلاء المعري حوار طريف فكه مع جني اسمه الخيتعور، وأبو هدرش يسخر فيه هذا الجني من شعر الإنس ويقول إن أضعف الجن شعرا أفضل من امرئ القيس. ولا يفوت المعري أن يشير من طرف خفي إلى أن ما يروى مما ينكره المعقول هو جزء من الأكاذيب.
ويزعمون أن للجن آلاف البحور الشعرية بينما للبشر 16 بحرا فقط ابتكرها الخليل بن أحمد الفراهيدي وزاد الأخفش المتدارك.