وفاة البحر الميت

عند الحديث عن البحر الميت دائما ما تتناهى إلى الأسماع أسئلة مثل: متى وكيف أصبح البحر الميت ميتا؟ وهل ستستمر وفاته؟ أم أنه سيعود إلى الحياة مرة أخرى؟
للبحر الميت سحر خاص ليس لدى سكان الأردن والمنطقة العربية فحسب، بل حتى العالم. فقصة البحر الميت ارتبطت بحضارات قديمة، بل حتى بديانات ولدت في المنطقة.
(البحيرة) التي يبلغ طولها (حاليا) 55 كم x 18 كم وتنخفض 423 م تحت سطح مستوى البحر وتتغذى من نهر الأردن، كانت في الأساس بحيرة عذبة ومرتفعة عن مستواها الحالي. ولكن قبل نحو 10.000 سنة انخفض مستوى هذه البحيرة إلى نحو 400 متر بسبب لا يزال محط اختلاف بين العلماء. منهم من يراها نتيجة العقوبة الإلهية لقوم لوط، الذين كانوا يوجدون في تلك المنطقة، في حين ينسبها علماء الجيولوجيا إلى حركات الصفائح الأرضية (plate tectonics) التي تسببت في هبوط البحر عند انفصال صفيحتي قشرية أرضية هناك ويدللون على ذلك باستمرار انخفاض البحر الميت بمعدل يصل إلى 30 سم في السنة أو متر كامل كل ثلاث سنوات! ومنهم من يجمع بين القولين.
ليس هذا هو السر الوحيد الغامض لهذا البحر الغريب الذي عاصر حضارات وأديانا شتى فباح ببعض الأسرار واحتفظ بالبعض الآخر. ولهذا وبسبب غموضه وتميزه عرف البحر عند الحضارات السابقة وحيكت حوله الأساطير بل أعطي أسماء شتى. فأما اليهود فكانوا يسمونه يم الموت أو يم الملح وإليه التجأ نبيهم وملكهم داوود عليه السلام قبل أن يصير له الملك بعد طالوت – أو شاول كما في المراجع التوراتية. عرفه المسيحيون أيضا فوصف في الإنجيل بالبحر الشرقي أو بحر عربة. وعلى ساحله الجنوبي كانت تقع بلدة صوغر التي لجأ إليها نبي الله لوط امتثالا لأمر الله وهربا من قومه أهل سدوم المجاورة فسمي البحر ببحر لوط أو بحر صوغر. حتى فراعنة مصر استخدموا الأسفلت الذي يخرج من هذا البحر – وهذا سر آخر محير من أسرار البحر - في تحنيط موتاهم ولهذا سماه الإغريق ببحر الأسفلت.
البحر الميت وإن كان كما يعرف الكثيرون هو أعمق نقطة على اليابسة – خندق ماريانا (Mariana Trench) شرقي الفلبين هو أعمق نقطة في المحيطات وفي الكرة الأرضية بشكل عام - إلا أنه وخلاف ما يظن الأغلبية ليس الأشد ملوحة فهناك مسطحات مائية أشد ملوحة كبحيرة آسال في جيبوتي. ومع ذلك فملوحته العالية، التي تبلغ عشرة أضعاف ملوحة البحر هي من سماته المميزة. وهي السبب في اختفاء الحياة البحرية هناك فلا يوجد سوى بعض الكائنات المجهرية كالبكتيريا، التي استطاعت التأقلم مع هذه البيئة القاسية ومن هنا جاءت تسمية البحر بالميت. أما سبب ملوحته العالية فهي عملية التبخر العالية للمياه من غير وجود أنهار لتصريف الماء منه ما يتسبب في تركيز الأملاح.
هذا البحر أخذ ومنذ عقود في الانكماش تدريجيا بسبب شح الروافد المغذية له حتى يتوقع أن يصل حجمه إلى الربع تقريبا بعد نحو عقد من الآن فقط. وإن استمر الوضع كما هو فلربما نسمع عن نعي البحر الميت رسميا خلال عقود بسيطة تقدرها بعض المصادر بالأربعة. وفاة البحر (بانكماشه) سوف تمثل كارثة بيئية واقتصادية للأردن. ولهذا بدأت الأردن في دراسة مشروع لإنشاء قناة بطول يقارب 200 كم لنقل ملياري متر مكعب من مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت تعرف بناقل البحرين (Red Sea- Dead Sea Project). المشروع الذي بدأ كفكرة في عام 2005 - في الحقيقة هناك مصادر تاريخية كثيرة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر تذكر هذه الفكرة تحديدا إنما لهدف آخر وهو منافسة قناة السويس - ومن المتوقع أن يرى النور في سنوات قليلة سوف يحقق هدفين: الأول الاستفادة من الفرق الكبير بين مستوى البحرين لإنشاء محطات كهرومائية لإنتاج الكهرباء وتشغيل محطات تحلية لماء البحر الأحمر (محطات تحلية البحر تستهلك كميات كبيرة جدا من الطاقة الكهربائية). التقديرات الأولية تشير إلى إنتاج 800 مليون متر مكعب من المياه المحلاة و500 مليون ميجاوات من الطاقة الكهربائية سنويا. هذه الكميات الضخمة من المياه المحلاة ستكون عونا للأردن لسد ظمئه من المياه حيث يعد البلد من أفقر البلدان مائيا في العالم. الهدف الثاني هو إحياء البحر الميت عبر ضخ الماء المتبقي بعد التحلية إليه. هذا الماء سوف يكون تقريبا بضعف ملوحة البحر الأحمر (نحو 65.000 ملغ في الليتر الواحد). هذا الرافد الجديد سوف يقلل من انكماش البحر الميت الحالي بل سيكون بمقدوره أن يعيده إلى مستواه السابق لكنه في المقابل قد ينهي الخصائص المميزة لهذا البحر إلى الأبد. فالبحر الميت يحتوي على عشرة أضعاف ملوحة البحر الأحمر في حين يحتوي الرافد الجديد من هذه القناة على ضعفي الملوحة فقط. أي أن القناة سوف تخفف من ملوحة البحر الميت وتحوله إلى بحر آخر كسائر البحار. عندها سيفقد تميزه ولن نتمكن من الطفو فيه بل حتى قد تتحقق نبوءة اليهود بصيد السمك هناك. أي أن القناة سوف (تحيي) البحر الميت.
يبدو أن هذا البحر يصارع (الموت) في أيامه الأخيرة سواء ترك البحر الميت لينكمش ويختفي من الوجود أو أقيمت القناة الجديدة (لتحييه) وتخفي خصائصه الفريدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي