تصحيح المفاهيم المائية .. ماء خال من الأملاح

تحدثنا في المقال السابق عن تبسيط بعض المصطلحات المائية وسنتحدث في هذا المقال عن تصحيح بعض المفاهيم المائية. سيتركز الحديث هنا وفي المقالات القادمة حول موضوع يهم الجميع وتسأل عنه الأغلبية وهو الماء والصحة. وسنبدأ بمدى تأثير كمية الأملاح في الماء على الجسم وبشكل أدق مدى تأثير شرب ماء يحتوي نسبة أملاح قليلة جدا على الجسم.
منظمة الصحة العالمية حددت سقفا أعلى لملوحة الماء وهو 1000 ملغ لكل لتر (مع تفضيل أن يكون أقل من 500).أغلب المياه المعلبة في السوق تحتوي كمية أملاح في حدود 200 – 300 ملغ لكل لتر. السبب الرئيس غالبا لكمية الأملاح في الماء هو المذاق وليس الصحة، فكلما زادت نسبة الأملاح كان طعم الماء غير مستساغ. نوعية الأملاح في الماء - وليس كميتها - هي الأهم من الناحية الصحية. وبسبب اختلاف المذاق تختلف كمية الأملاح من ماء معبأ إلى آخر، فكثير من الشركات تقوم بإنتاج مياه بملوحة أقل من السابق، ففي السوق المحلية مثلا مياه بملوحة قليلة تصل إلى 110 ملغ لكل لتر.
لكن ماذا لو تم إنتاج مياه بملوحة أقل؟ ماذا يحدث لو شرب الإنسان ماء بملوحة منخفضة جدا (أقل من 100 ملغ لكل لتر)؟ بل ماذا سيحدث لو شرب الإنسان ماء مقطرا (درجة ملوحة أقل من 5 ملغ لكل لتر)؟.
لمعرفة أهمية كمية الأملاح في الماء لا بد أن نعرف أولا دور الماء في الجسم. أي ببساطة: لماذا نشرب الماء؟ يلعب الماء عدة أدوار حيوية في الجسم البشري وهي كالتالي: ناقل للغذاء وللفضلات من وإلى خلايا الجسم المختلفة، منظم لحرارة الجسم، جزء مهم في التفاعلات الجيوكيميائية في الخلايا ومرطب للمفاصل والأربطة. لاحظ أن كل هذه الوظائف هي للماء وليست للأملاح الذائبة في الماء. إذاً فهل هذه الأملاح مجرد إضافة لا طائل منها؟ من المعلوم للكل حاجة الجسم إلى الأملاح المختلفة يوميا كالكالسيوم والصوديوم وغيرها، لكن يمكن الحصول على هذه العناصر من المصدر الأساسي لها تقريبا وهو الغذاء وليس الماء، فالجسم مثلا يحتاج إلى 2400 ملغ من الصوديوم يوميا تأتي كلها تقريبا من الغذاء ولا يوفر الماء منها سوى 40 ملغ (باحتساب شرب لترين من الماء يوميا). وجود الأملاح في الماء مهم – في نظر المؤيدين- لسبب آخر.
في أغلب تقارير المنظمات العالمية المعنية بالماء، كان التركيز منذ القرن الماضي وما زال على تحديد السقف الأعلى للعناصر الموجودة في الماء لأسباب صحية. فهناك حد أعلى مسموح به للفلورايد والبورون وغيرها من العناصر والأملاح التي قد يشكل وجودها خطرا على صحة الإنسان. لكن لم يكن هناك حد أدنى لمجموع الأملاح الذائبة والسبب بسيط فلم تكن هناك مصادر كثيرة لماء شرب بملوحة منخفضة جدا، حتى ظهرت تقنيات التحلية. فهذه التقنية تستطيع إنتاج ماء خال تقريبا من الأملاح وهنا بدأ النقاش: هل الماء الخالي من الأملاح صالح للشرب؟
أولى الأبحاث المعروفة في هذا المجال تمت في الاتحاد السوفييتي سابقا في سبعينيات القرن الماضي وأشارت إلى أن شرب ماء بملوحة منخفضة مضر للصحة وحددت الحد الأدنى للملوحة في الماء بـ 100 ملغ لكل لتر. السبب الرئيس في خطورة هذا النوع من الماء من وجهة النظر السوفييتية – ومن يؤيدها من الباحثين- تأتي من إحدى أهم مميزات الماء بشكل عام وهي قدرته على الإذابة. ففي هذه الحالة سوف يقوم الماء بإذابة الأملاح من الجسم وبالتالي سوف يفقد الجسم الأملاح الضرورية بدلا من اكتسابها. هذه الفرضية لم تلق قبولا عند الكثير من العلماء والباحثين – خصوصا الأمريكيين- لسببين رئيسين: الأول تاريخي والثاني علمي. فأما تاريخيا فلوجود حالات كثيرة لشرب مياه قليل الملوحة من دون ظهور أي أعراض، فهناك العشرات من المدن في أمريكا – في أوريغون وواشنطون وبوسطن وغيرها- اعتمدت على مصادر شرب ذات ملوحة أقل من 100 ملغ لكل لتر لعشرات السنين من دون مشاكل صحية. هناك أيضا جنود البحرية الأمريكية – على متن السفن والغواصات- والذين يعتمدون ولشهور على أجهزة التحلية لإنتاج ماء بملوحة منخفضة. وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لم تجد هي الأخرى ضيرا في إنتاج ماء منخفض الملوحة بشكل كبير لشرب رواد الفضاء.
أما السبب العلمي فيعود إلى ظاهرة التوازن بين سوائل وأملاح الجسم (Homeostasis). تقول هذه النظرية إن الجسم يقوم بموازنة الضغط الأسموزي أو التناضحي – وهو تركيز الأملاح في سوائل الجسم- باستمرار والعضو الرئيس في هذه العملية هو الكلى. تقوم الكلى بتنقية ما يقارب من 180 لترا من الماء يوميا للحفاظ على تركيز أيوني يقارب آلـ 9000 ملغ لكل لتر. وهكذا فإن شرب لتر أو اثنين يوميا بتركيز أقل من 100 ملغ لكل لتر لن يكون ذا تأثير كبير. فعندما يقل تركيز الأملاح، تقوم الكلى ببساطة بالتخلص من ماء أكثر لزيادة تركيز الأملاح في الجسم والعكس صحيح.
لا يزال الجدل مستمرا حول مدى سلامة شرب ماء منخفض الملوحة لفترات طويلة. إذا كنت ممن يتحيزون جانب الحيطة والحذر فعليك إذاً بشرب ماء بمجموع أملاح لا تقل عن 100 ملغ لكل لتر، هذا عن الكم، لكن ما أنواع هذه الأملاح المسموح بها؟ هذا ما سنتعرف عليه في الأسبوع القادم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي