الوضع المائي في السعودية .. نظرة عامة
نبدأ اليوم سلسلة مصغرة للحديث عن الوضع المائي في المملكة العربية السعودية. الهدف إلقاء الضوء على التحديات في هذا الجانب المهم جدا لكل مواطن ونشر الوعي والثقافة المائية، واقتراح (أو ترديد بعض المقترحات لإيجاد) حلول ناجعة للتغلب على التحديات الحالية أو التقليل من آثارها. من الصعب من خلال هذه المقالات البسيطة تحديد جميع المشكلات المائية ومن المستحيل حصر جميع الحلول وذلك لسببين بسيطين:
الأول، صعوبة معرفة الوضع المائي الحالي بدقة، وذلك يرجع في الأساس إلى غياب "وأحيانا تغييب" المعلومات الدقيقة والحديثة.
والسبب الثاني، أن موضوع المياه محليا يتداخل مع اختصاصات وجهات أخرى – لا أدعي الإحاطة بها علما- كالزراعة أو علم دراسة المياه الجوفية "الهيدروجيولوجيا".
فالهدف إذا هو رسم صورة – ولو كانت غير واضحة تماما - للمعالم الرئيسة للوضع المائي في المملكة العربية السعودية ووضع حلول – وإن كانت غير متكاملة تماما، فما لا يدرك كله لا يترك جله. وهذا لا يتم من دون إدارة مائية مستدامة. أولا وببساطة، الإدارة المائية الحسنة هي الموازنة بين العرض "مصادر الماء المتوافرة الحالية والمستقبلية" والطلب "استخدامات الماء في الأوجه المختلفة حاليا وفي المستقبل" دون إفراط في الاستخدام أو تفريط في المصادر.
سابقا، كانت إدارة المياه – في المملكة العربية السعودية بل عالميا- تعتمد على ما يعرف بإدارة العرض Supply Management. فعندما ارتفع الطلب السكني "أو البلدي" على المياه للفرد السعودي من 120 لترا يوميا في عام 1980 م إلى 315 لترا يوميا في عام 1999 م كانت الاستراتيجية المائية تنادي بكل بساطة بتلبية هذا الطلب بحفر مزيد من الآبار وإنشاء مزيد من محطات تحلية مياه البحر ومد مزيد ومزيد من أنابيب نقل المياه. لكن هذه الاستراتيجية وهذا النوع من الإدارة لا يمكن أن يستمر فهو بكل بساطة غير مستدام. لا بد أن نتحول شطر النوع الآخر من الإدارة المائية وهو إدارة الطلب Demand Management. لابد أن نقلل من استهلاكنا السكني الجائر في المملكة بطريقتين: الأولى، التقليل من التسربات المائية في شبكات النقل والتوزيع في المدن والمنازل التي يمكن أن تتسبب في هدر ما يصل إلى ربع وأحيانا ثلث كميات المياه، والثانية، تقليل معدل الاستهلاك الفردي. الأرقام تشير إلى نجاح وزارة الماء والكهرباء في هذا المجال حيث إن معدل استهلاك الفرد السعودي للمياه – سكنيا- انخفض إلى نحو 250 لترا يوميا وذلك لا يزال رقما عاليا. الفرد الألماني مثلا يستهلك 130 لترا يوميا "إحصائية عام 2007" في حين يستهلك الفرد الهولندي يوميا ما مقداره 205 لترات "إحصائية عام 2008 م". وعلى النقيض من ألمانيا وهولندا الغنيتين بالمصادر المائية المتعددة، فالمملكة العربية السعودية وللتذكير فقط بلد صحراوي جاف!
هذا في المجال السكني أما في المجال الزراعي فالوضع أشد سوءا وأكثر خطورة. فمع الطفرة الاقتصادية في الحقبات السابقة، قامت الحكومة بتوفير دعم غير محدود للمزارعين وللمستثمرين الزراعيين. التوسع الزراعي غير المسبوق في هذا البلد الصحراوي كان أهم إنجازاته في الوقت ذاته أكبر أخطائه وهي البحث عن تحقيق "الأمن الغذائي" من خلال زراعة القمح. ازدهرت زراعة القمح المدعومة حكوميا حتى أصبحت المملكة العربية السعودية في مصاف الدول المتقدمة في إنتاج القمح ككندا – تبوأت المملكة المركز السادس عالميا في بداية التسعينيات قبل أن يتم إيقاف الدعم. آن الأوان إلى أن ننتقل إلى إدارة الطلب في الجانب الزراعي أيضا ونحد بشكل كبير من الهدر الجائر للمياه الجوفية خصوصا. للتذكير مرة أخرى: المملكة العربية السعودية أكبر دولة في العالم من دون مسطحات مائية دائمة. في المقابل كندا – منافستنا في زراعة القمح سابقا- هي الدولة ذات المسطحات المائية الأكبر في العالم!
الوضع "الهدر" المائي في الجانب الصناعي لا يختلف عن الجانب السكني والزراعي وإن كان بنسبة أقل بكثير. كثير من المصانع كان – وبعضها لا يزال- يستهلك المياه الجوفية ذات النوعية الجيدة في أعماله. عند حساب تكلفة المنتج المصنع لا يتم للأسف اعتبار المياه أو يتم احتساب تكلفة متدنية جدا. ولو قدرنا الماء حق قدره لأصبح كثير من المنتجات الصناعية الحالية غير مجد اقتصاديا بسبب استهلاكه العالي للماء. للتذكير مرة أخيرة: عند النظر إلى كمية المياه المتجددة المتوافرة لكل شخص، فإن المملكة العربية السعودية – مع عدد قليل من الدول- هي الأفقر مائيا في العالم وبمعدل أقل من 500 متر مكعب من الماء لكل شخص سنويا!
ليس المقصود التخلي عن الزراعة أو الصناعة أو رفع الدعم عنهما كليا، إنما المطلوب هو التوازن والترشيد وإعطاء الأولوية القصوى للماء والأمن المائي، فلا أمن غذائيا أو صناعيا من دون ماء. الوضع المائي في المملكة العربية السعودية يحمل كثيرا من التحديات ويحتوي على كثير من العقبات. وعلى الرغم من كل هذا فإن التصحيح لا يزال ممكنا لتخطي هذه العقبات وتحقيق إدارة مائية مستدامة لنا وللأجيال القادمة، أي تحقيق الأمن المائي. وكما يقول المثل الإنجليزي: أشد ما تكون ظلمة الليل قبل انبلاج الفجر.