الوضع المائي في السعودية «4» .. شكرا محمد الفيصل
رأينا أن المملكة العربية السعودية لديها مصادر تقليدية للمياه وأخرى غير تقليدية. ورأينا أن المصادر التقليدية - وهي المياه السطحية والجوفية - هي المصادر الرئيسة للمياه دون منازع. فقد كانت هذه المصادر ولمئات السنين هي المصدر الأول، بل الوحيد للشرب وللزراعة في الجزيرة العربية.
إلا أن الزيادة السكانية الهائلة التي شهدتها المملكة في العقود الأخيرة (معدل نمو عال يصل إلى 3.2 في المائة) وارتفاع مستوى المعيشة كذلك، (حيث تضاعف معدل استهلاك الفرد الواحد للمياه من 120 لترا يوميا في عام 1980 إلى 315 لترا يوميا في عام 1999) والتطور المتسارع في المجال الزراعي خاصة (تضاعف من 12.3 مليار متر مكعب في عام 1980 إلى 20 مليار متر مكعب في عام 2010)، أدت إلى زيادة الطلب على المياه بشكل كبير.
ارتأت الدولة مبكرا ضرورة إيجاد موارد مائية غير تقليدية تكون مكملة للمياه الجوفية تحديدا. فالمياه الجوفية كما رأينا سابقا هي مياه غير متجددة في الغالب، كما أن الاستهلاك الجائر لها - وهو السبب الرئيس في نظري - سيؤدي إلى نضوبها وبالتالي عجز في تلبية الطلب على الماء. كانت بدايات البحث عن مصادر مياه بديلة قد بدأت قبل تأسيس الدولة السعودية ذاتها، حيث تم إنشاء ما يمكن اعتباره أول محطة تحلية في المملكة وهي الكنداسة عام 1907 في مدينة جدة وذلك عن طريق الدولة العثمانية. سميت الكنداسة بهذا الاسم فيما يبدو كتعريب أو تحريف للاسم الإنجليزي Condenser فهي كانت عبارة عن جهاز تقطير يعمل بالفحم.
لكن البداية الفعلية في البحث عن مصادر غير تقليدية وفي تحلية مياه البحر تحديدا كانت على يد الاسم الأبرز في هذا المجال وهو الأمير محمد الفيصل. لا يسعني وأي باحث في مجال المياه في المملكة إلا أن نقف احتراما لهذه القامة. عند القراءة في سيرته يتبين على الفور تميز مسيرته بخصلتين. الأولى، التفكير غير التقليدي "أو كما يسمى حاليا التفكير خارج الصندوق" والخصلة الثانية: شغفه (وأكاد أقول هوسه) بأكبر تحدٍ يواجه البلد وهو (ندرة) المياه.
بدأ شغف الأمير بإيجاد حل لندرة المياه في المملكة مبكرا، فعند دراسته الجامعية في الولايات المتحدة تعرف إلى تجارب تجرى هناك لتلقيح السحاب باستخدام مادة (سيلفرايد) فيما عرف لاحقا بالمطر الصناعي. نقل هذه المعلومات والأبحاث إلى المملكة لكنها قوبلت بالرفض لأسباب منها دينية وأخرى براغماتية بحتة مثل عدم وجود السحب لمواسم في أجواء المملكة. كانت هذه أول مرة يصطدم طموحه وفكره بالواقع البيروقراطي والمحافظ لكنها لن تكون الأخيرة. فقد واصل أبحاثه ودراساته وكان من ضمن المشاريع التي قيمها جلب الماء العذب من الأنهار المحيطة بالمملكة مثل نهر النيل من السودان ونهر الفرات من العراق ونهر السند من باكستان. كانت هناك أيضا فكرة جلب الماء عبر السفن من إحدى الجزر بالقرب من مدغشقر في المحيط الهندي (لعلها جزيرة لا ريونيون الفرنسية). محاولته المميزة لجلب جبل جليدي من - الجبال المنفصلة عن - القطب الجنوبي إلى المملكة تظل الأشهر والأغرب في ذات الوقت. الفكرة طرأت عليه بعد قراءة خبر عن استخدام الصيادين في أمريكا الجنوبية لقطع الجليد المنفصلة عن الجبال الجليدية لحفظ أسماكهم. على الرغم من عدم تكلل هذه الفكرة بالنجاح إلا أنها استغرقته أكثر من خمس سنوات تفرغ فيها تماما للدراسات التقنية والبيئية والقانونية أيضا.
إلا أن اختيار الحكومة في ذلك الوقت وقع - وبشكل صحيح - على تحلية البحر كحل استراتيجي مستدام لتوفير مصدر ماء بديل للمياه الجوفية القليلة. وتشير بعض التقارير إلى الأمير محمد الفيصل كصاحب للفكرة، حيث كانت التحلية قد بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة ولاية فلوريدا وكاليفورنيا.
وعندما تم تأسيس إدارة لتحلية المياه وكانت تابعة لوزارة الزراعة والمياه عام 1965 كان الأمير هو أول رئيس لها. الطريف والمثير للإعجاب في الوقت نفسه هو أن إدارة المياه لم تكن تخصص الأمير العلمي (درس إدارة أعمال) ولا العملي (بدأ في مؤسسة النقد). ازدهرت تحلية مياه البحر في السعودية منذ إنشاء المحطة الأولى في مدينة الوجه على الساحل الغربي عام 1969 إلى الوقت الحالي، حيث تتبوأ المملكة المركز الأول عالميا في كمية المياه المحلاة. مياه البحر المحلاة تغطي حاليا الطلب المائي السكني للمدن الساحلية - سواء في الشرق أو الغرب - وما يقارب النصف من الطلب المائي السكني لمدينة الرياض. تمثل مياه البحر المحلاة أكثر من نصف الطلب السكني محليا وما نسبته 6 في المائة من مجمل الاستخدامات.
خلاصة القول إن فكرة التوجه نحو البحر كخيار مكمل للمصادر المائية الحالية هي فكرة استراتيجية صحيحة. لكن لا ينبغي بأي حال اعتمادها كمصدر رئيس والاستمرار باستنزاف المياه الجوفية - خاصة غير المتجددة - فعندها يكون الاستمرار في التوسع في تحلية مياه البحر قرارا استراتيجيا خاطئا وغير مستدام. ينبغي أيضا تطوير هذه الصناعة وذلك بزيادة الأبحاث في مجال التحلية لخفض التكلفة العالية الحالية وتحويل التحلية من صناعة تعتمد على الطاقة الأحفورية الناضبة إلى صناعة مستدامة تعتمد على مصادر طاقة نظيفة ومتجددة كالطاقة الشمسية. وأخيرا، كم نحتاج إلى أمثال محمد الفيصل.
ملحوظة: أغلب معلومات المقال مستقاة من كتاب قصة التحلية في المملكة: النشأة والتطور والازدهار من إنتاج المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة.