الخصخصة في المملكة.. ردة فعل أم مشروع استراتيجي؟

الاقتصاد الحديث يعني بيئة استثمارية جاذبة تتميز بالمرونة، والتنافسية، وسهولة حركة الأموال والحصول عليها. وأي اقتصاد حديث يتمكن من تحقيق هذه البيئة الاستثمارية سيكون قادرا على اجتذاب الابتكار ورؤوس الأموال ويستطيع احتضان المبادرين. هذه الشروط صعبة التحقق في ظل الاقتصاد الذي يدور حول الحكومة. فالاقتصاد الموجه هو اقتصاد غير تنافسي بطبيعته، كما أن التحكم في حجم المنافسة ونوعيتها وإغلاق الأسواق واحتكار الحكومة لعناصر الإنتاج يجعل من الصعب إيجاد البيئة الاستثمارية القادرة على جذب رؤوس الأموال، والأهم من رؤوس الأموال هو جذب الابتكار والمغامرين، ذلك أن الأفكار والابتكارات تبحث عن حاضنات والاقتصاد الذي يتمكن من توفير البيئات الحاضنة سيتمكن حتما من المنافسة العالمية وبناء اقتصاد مستدام، حتى إذا لم تتوافر لها المقومات التقليدية للاقتصاد فلم يعد ذلك هما في عالم يرتكز على تعظيم القيمة باستخدام أقل الموارد، وهكذا فإن الشروط تضع نفسها إذا كنا نريد الانتقال إلى اقتصاد حديث مستدام، فلابد من بيئة تنافسية تتخلى الحكومة فيها عن كثير من عناصر الإنتاج التي لديها.
وإذا كنا نؤكد دوما أن الحكومة السعودية قد تنبهت إلى هذا الوضع العالمي الجديد منذ وقت طويل فوضعت عددا من الأهداف لتحسين بيئة الاستثمار حتى تصبح من بين الدول الأكثر قدرة على جذب الاستثمارات العالمية، فلم يكن انخفاض النفط ـــ طبقا لواقع الأمر ـــ هو الذي جعل الحكومة تجدد النظر في موضوع خصخصة كثير من القطاعات التي تسيطر عليها الحكومة، ونعم الوقت مناسب ويشجع على المضي قدما في هذا الطريق لكن لم نكن بحاجة إلى انخفاض أسعار النفط حتى نسير في هذه الطريق، ولو عادت الأسعار إلى مستوياتها القياسية العليا، فيجب أن نستمر في مشروع الخصخصة هذا نظرا لأنه المسار الصحيح الذي يجب أن يسير فيه الاقتصاد.
فالخصخصة بهذا التصور تعد مشروع تحول في الاقتصاد الوطني نحو الاقتصاد الحر، الذي يرتكز على التنافسية، التي بدورها تعمل على توزيع الموارد بطريقة صحيحة وكفؤة على عوامل الإنتاج المختلفة وتوجد القيمة من خلال الابتكار، والخصخصة تحل مشكلة الملكية العامة التي تحدثت عنها مرارا في أكثر من مقال وهي ترتكز في عدم وجود حقوق ملكية تفرض توزيعا عادلا للدخل الناتج من استخدام عوامل الإنتاج، والتوزيع العادل لا يعني بالضرورة التساوي في التوزيع بل أن يحصل على النصيب الأكبر من الدخل من يسهم بشكل أكبر في إيجاد القيمة. دون حقوق ملكية واضحة لا يصبح التوزيع عادلا، خاصة إذا كان علينا أن نعطي الابتكار العائد الأكبر. فالخصخصة تعيد هيكلة حقوق الملكية وبهذا تمكن من فتح المجال للابتكار في المساهمة في إيجاد القيمة على أن يحصل على العائد الأكبر.
وعلى هذا فإن توجه المملكة نحو الخصخصة لم يكن وليد الظروف الاقتصادية الراهنة ـــ كما يحاول البعض أن يروج لذلك ـــ بل خطة اقتصادية وسياسة قديمة بدأت بقرار مجلس الوزراء رقم  60 وتاريخ 1/4/1418هـ بزيادة حصة القطاع الخاص وتوسيع مساهمته في الاقتصاد الوطني باتباع أفضل الوسائل المتاحة بما في ذلك تحويل بعض أنواع النشاط الاقتصادي إليه، ثم صدرت موافقة المجلس الاقتصادي الأعلى الذي كان برئاسة نائب خادم الحرمين الشريفين الأمير عبد الله بن عبد العزيز ـــ في حينه ـــ على استراتيجية التخصيص في المملكة التي تهدف إلى تحقيق ثمانية أهداف يهدف كل هدف إلى تحقيق عدد من السياسات، التي من أهمها ـــ كما أشرت أعلاه ـــ رفع كفاءة الاقتصاد الوطني وزيادة قدرته التنافسية لمواجهة التحديات والمنافسة الإقليمية والدولية وإلى توسيع نطاق مشاركة المواطنين في الأصول المنتجة وتشجيع رأس المال الوطني والأجنبي للاستثمار محليا (وهو ما نعني به هيكلية حقوق الملكية)، وكان من أهم السياسات التي وضعتها الخطة لتحقيق الهدف من الخصخصة:
العمل على تخصيص المشاريع والمنشآت والخدمات العامة المناسبة لمشاركة القطاع الخاص وإفساح المجال للمنافسة.
العمل على أن يؤدي التخصيص إلى زيادة حجم الاستثمارات المباشرة القادرة على الاستمرار الذاتي.
العمل على مشاركة شريحة كبيرة من المواطنين في أنواع النشاط المختلفة المحولة للقطاع الخاص من خلال اتباع أسلوب الاكتتاب العام كوسيلة للتخصيص كلما أمكن ذلك.
- تسهيل مشاركة الاستثمارات الأجنبية في ملكية المشاريع وأنواع النشاطات الإنتاجية المخصصة وفق الضوابط المنظمة لذلك.
- التطوير المستمر للسوق المالية لإتاحة الفرصة لمزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية، مع توفير مزيد من القنوات لاستقطاب المدخرات.
- تعزيز القوى الوطنية العاملة وزيادة معدلات السعودة وتوفير فرص تأهيل وتدريب العمالة الوطنية على رأس المال مقابل احتياجات التوسعة.
- المعالجة العادلة لأوضاع العمالة الفائضة الناتجة عن تحويل النشاط إلى القطاع الخاص.
- العمل على إنشاء هيئة تنظيمية مستقلة للتعامل مع المسائل الاجتماعية والتنظيمية والإشرافية لمراعاة مصالح المستهلكين كتوفير الخدمات وجودتها وتكلفتها.

إضافة إلى عدد كبير آخر من السياسات، ولهذا تباعا لهذه الاستراتيجية عملت المملكة بشكل هادئ طوال السنوات الماضية على دراسة تلك القطاعات التي من المرجح أن تكون هدفا واعدا للخصخصة، فبدأت بإنشاء هيئات خاصة لتلك القطاعات المستهدفة وإلغاء الوزارات التي كانت تشرف عليها، وتم إنجاز أهداف تتعلق بالسوق المالية وفتح المجال للاستثمارات الأجنبية، وكانت لدينا تجربة رائدة بخصخصة قطاع الاتصالات وفقا لقرار مجلس الوزراء رقم (135) الصادر في 15/8/1418هـ الذي تمت فيه الموافقة على تحويل مرفق الاتصالات (البرق والهاتف) بما في ذلك الهاتف الثابت ونظام نقل المعلومات والنداء الآلي والهاتف الجوال والهواتف العمومية والشبكة العامة إلى شركة مساهمة سعودية تنشأ باسم (شركة الاتصالات السعودية)، وقد تضمن القرار عدة فقرات متنوعة لعل أهمها نقل جميع حقوق وممتلكات الدولة واستثماراتها المحلية والدولية فيما يتعلق بالاتصالات إلى الشركة الجديدة، إضافة إلى الرسوم والعوائد المالية التي تحصلها الدولة من الشركة. وقد تم بعد ذلك فتح السوق للتنافس ودخلت السوق شركات خليجية بمشاركة مستثمرين سعوديين، ويسهم قطاع الاتصالات اليوم بنحو 2.7 في المائة من الناتج المحلي.
اليوم وبعد نجاح تجربة الاتصالات تعلن هيئة الطيران المدني وفقا للخطة الاستراتيجية للخصخصة أنها ستبدأ في تنفيذ استراتيجيتها نحو التوجه للخصخصة بتحويل جميع المطارات في المملكة، وبعض قطاعاتها إلى شركة قابضة مملوكة للهيئة باسم “شركة الطيران المدني السعودي القابضة”، حيث تتملك الوحدات المخصصة والإشراف عليها وتحقيق التكامل بينها بما يضمن خفض النفقات وتعظيم الإيرادات وتحسين الخدمات مع المحافظة على جميع معايير السلامة والأمن وأنظمة الطيران المدني. وأن مطار الملك خالد الدولي سيتم تخصيصه بالربع الأول من 2016، في حين سيتم الانتهاء من هذا البرنامج عام 2020. إذا نحن نسير في طريق رسمه الاقتصاد السعودي منذ ما يقرب من 20 عاما، تم خلاله بناء السوق المالية التي لا يمكن النجاح في مشاريع الخصخصة دونها، وتم فتح السوق للاستثمار الأجنبي كما كان مخططا، كما تم اختيار القطاعات التي سيتم خصخصتها، وبدأت هذه الخطوة من خلال إنشاء هيئات إشرافية مثل هيئة الاتصالات التي نجحت في خصخصة قطاعات الاتصالات ثم تم إنشاء هيئة الطيران المدني التي عليها الآن تنفيذ استراتيجيتها في الخصخصة، وهكذا فليست الخصخصة خطوة مستعجلة لانخفاض أسعار النفط لكن يجب ألا نغفل عن أن مشروعنا في الخصخصة رغم دقته وجديته إلا إننا نعاني بطئا لا يتناسب مع التغيرات الاقتصادية التي تحدث في العالم، فـ 20 عاما على الخطة الاستراتيجية ليس بالقليلة وكان علينا أن ننجز أكثر، ولعل الظرف الاقتصادي الراهن والتغيرات الهيكلية وفي صناعة القرار الحكومي تسهم في تسارع عجلة الخصخصة في المملكة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي