تطوير الإدارة المحلية .. لتحقيق «الرؤية الوطنية 2030»

من ايجابيات إطلاق "رؤية 2030" وبرنامج التحول الوطني أنها وسعت دائرة النقاش العام ليتناول قضايا جوهرية ومستقبلية وحساسة، وأتاحت الفرصة لمناقشة ما لم يكن يناقش أو يتنبه إليه. وقد تكون الإدارة المحلية كموضوع وممارسة.. الحاضر الغائب في نقاشات الرؤية المستقبلية للتنمية الوطنية وما تتضمنه من أفكار وأساليب لتحقيق مستويات أعلى من الإنتاج الاقتصادي والتنمية الاجتماعية ومواجهة التحديات والمستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية. والمعضلة التي تواجه الإدارة المحلية هي الموازنة بين القرار المركزي والقرار المحلي. إذ إن هناك اعتقاد سائد بأن منح صلاحيات أكبر للمحليات يقلل من سلطات المؤسسات المركزية. وهو أمر غير صحيح كما تشير إلى ذلك تجارب الدول، بل التجربة السعودية ذاتها في مرحلة التأسيس. وإنما هذا التصور هو نتيجة لفهم الإدارة المحلية في نطاق البيروقراطية الضيق ليتم اختزالها في تقديم الخدمات العامة وحسب، بينما إطارها أوسع من ذلك بكثير، فهي مسؤولة عن صناعة القرار المحلي بجميع قطاعاته وبناء رؤية مستقبلية للاقتصاد المحلي وإدارة المحليات. ومثلما هناك ضرورة للمركزية في توجيه النشاط التنموي وتفعيله، هناك أيضا أهمية بالغة في تطبيق اللامركزية. إذ إن الإدارة المحلية هي جذور التنمية الوطنية ومكان الحراك والنشاط الاقتصادي والفعل الاجتماعي. وتبرز مسألة الموازنة بين المركزية واللامركزية كمسألة جوهرية لتطوير صناعة القرار الحكومي، بحيث تتم صناعة القرار المحلي محليا وليس مركزيا، فهذا أدعى لتحقيق الكفاءة والفاعلية والاستجابة لمطالب سكان المحليات سواء على مستوى المنطقة أو المحافظة أو المدينة. هذا النهج في الموازنة بين المركزية واللامركزية يستشف من الإرث الإداري السعودي الذي أسس له الملك عبد العزيز ـــ يرحمه الله ـــ، فبالقدر الذي كان ـــ يرحمه الله ـــ يضع التوجهات العامة وصياغة سياسات وخطط على مستوى الدولة، كان في الوقت ذاته يمنح جميع الصلاحيات لأمراء المناطق والمحافظات فيما يختص بالشؤون المحلية، منطلقا من مبدأ "يرى الحاضر ما لا يرى الغائب" وأن أهل المدن أدرى بشؤونهم وهم في الوقت ذاته مسؤولون عن تحقيق المصالح المحلية بجميع أنواعها سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ومساءلون عن أي إخفاق لذلك. كما أن منح صلاحيات كافية للمحليات لصناعة القرارات المحلية يسهم في مشاركة السكان المحليين والمؤسسات المدنية والخاصة والحكومية في عملية صنع القرار، ولا شك أن هذا سيحفزهم ويدفعهم للمساهمة في جهود التنمية المحلية التي تصب في تحقيق «الرؤية الوطنية».
إن المركزية الشديدة على أهميتها في تحقيق التحول الوطني وإحداث التغييرات المطلوبة، إلا أنها قد تفقد سكان المحليات الحماس والرغبة في المبادرة وربما شكلت عائقا لتحقيق «رؤية 2030» بالمستوى المطلوب وبالتالي من الضروري تلافيه. ولذا يتحتم النظر لمنظومة الإدارة الحكومية بشمولية وعمق أكبر يجعل من الممكن إدراك أهمية التنسيق والموازنة بين القرارات المركزية والمحلية. وعلى أن هناك تنظيمات للإدارة المحلية في السعودية مثل نظام مجالس المناطق والمجالس المحلية "مجالس المحافظات" والبلدية، إلا أنها تظل تنظيمات مجزأة ومتفرقة لا رابط فيما بينها ولا تمنح صلاحيات كافية لإدارة الشأن المحلي وأدوارها ضيقة في مجال التنمية المحلية. ولذا يتطلب الأمر نظاما للإدارة المحلية يكون بمنزلة إطار موحد ومرجعية واحدة للإدارة المحلية بجميع مستوياتها سواء على مستوى المنطقة أو المحافظة أو المدينة. إن إصدار نظام للإدارة المحلية سيرفع مستوى الحوكمة والأداء الحكومي ويضيق نطاق الإشراف، وبالتالي سيمكن الجهات المركزية من ممارسة الضبط والسيطرة على المحليات بشكل أكثر فاعلية، وليس كما يعتقد البعض أن منح صلاحيات أكبر للمحليات سيقلل من سلطات الجهات المركزية. ولأهمية إدارة المناطق في تسريع وتيرة التنمية المحلية فيقترح إنشاء مجلس أعلى للإدارة المحلية برئاسة الملك ـــ يحفظه الله ـــ وعضوية أمراء المناطق. هكذا تكتمل منظومة العمل الحكومي. ما يشجع على طرح هذه الأفكار أن المملكة تعيش فترة تحول في الفكر الإداري الحكومي ونهج جديد في ممارسة العمل العام يستهدف الانتقال إلى أوضاع جديدة تجعل المملكة أكثر إنتاجا وتلاحما وازدهارا. وأجزم أنه لم يفت على صانع القرار أن الإدارة المحلية أحد الموضوعات الوطنية المهمة وأنها ستأخذ حقها من النقاش والتحليل في الوقت المناسب. ولذا ما يطرح هنا هو استجابة لدعوة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أكثر من مناسبة لإبداء الرأي وطرح الأفكار لما يسهم في تحقيق "الرؤية الوطنية 2030". هكذا تتحقق اليقظة الاستراتيجية في أن تستوعب الاستراتيجية المستجدات والمبادرات مع الثبات على التوجه العام. نحن الآن نعيش طفرة فكرية وأسلوبا جديدا في تناول الشؤون العامة وإدارتها وهو ما سيجعلنا نعبر بإذن الله إلى آفاق أرحب ومستويات أعلى في التنمية الاقتصادية والإنتاج الصناعي والتحضر الاجتماعي وسيمكننا بمشيئة الله من اللحاق بركب العالم الأول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي