الإسكان في سنغافورة .. وقصة نجاحه

أثناء فترة الاستعمار في سنغافورة كانت الأحياء السكنية موزعة وفقا للأعراق المختلفة في وسط المدينة التي كانت تعاني سوء الخدمات وانعدام الأمن والاستقرار، وكانت الأحياء الراقية وذات الخدمات المميزة في الضواحي مخصصة للأغنياء والأوروبيين. في عام 1920 قام الاستعمار البريطاني بإنشاء صندوق تطوير سنغافورة SIT الذي كان معنيا بتوفير الوحدات السكنية ذات الجودة المقبولة وتحسين جودة الحياة، لكن ذلك الصندوق أخفق في مهمته فلم ينشئ خلال 23 عاما سوى 23 ألف وحدة سكنية أي بمعدل 1000 وحدة سكنية سنويا. لكن بعد أن تولى لي كوان رئاسة الوزراء في عام 1959، قام بحل صندوق تطوير سنغافورة واستبدله بمجلس التنمية والإسكان HDB لتبدأ حقبة جديدة في مجال الإسكان ولتسطر نجاحات تدرس في مجال السياسات الإسكانية على مستوى العالم، حيث ارتفعت نسبة تملك المواطنين من 58.8 في المائة إلى 87.5 في المائة خلال عشر سنوات (1980ــ 1990) أي بمعدل 3 في المائة سنويا، وحصلت هذه القفزات بعد اعتماد برنامج ملكية المساكن في عام 1964 التي جعلت قرابة 82 في المائة من المواطنين اليوم يسكنون في مساكن ذات جودة عالية، بل فازت بعضها بجوائز عالمية كمشاريع إسكان مميزة وكلها تم بناؤها تحت إشراف مجلس التنمية والإسكان، لكن ما المبادئ التي اتبعها برنامج ملكية المساكن لتحقيق هذا النجاح الباهر في مجال الإسكان؟
في بحث قامت به الجامعة الوطنية السنغافورية SNU عن سياسات الإسكان وتاريخها، ذكرت أن المبدأ الأول لبرنامج التملك كان في تدخل الحكومة لترسية الاستقرار من خلال جعل الأسر تمتلك المنازل وفق إمكاناتها المادية بدعم حكومي سخي، وذلك لأنها أدركت قوة العلاقة بين تملك الأسر للمسكن والاستقرار المعنوي والاجتماعي والاقتصادي، لذلك كانت كلمات لي كوان في بداية توليه لرئاسة الوزراء في 1960 - وهو الذي نقل سنغافورة من دول العالم الثالث إلى الأول - هي: "همي الأول أن أجعل لكل مواطن حصة من الدولة ومستقبلها، وذلك أن أشكل مجتمعا قائما على امتلاك مسكنه، وقد رأيت الفرق الشاسع بين تلك المباني الحكومية المخصصة للإيجار ذات الصيانة والخدمات السيئة في مقابل تلكم المباني المملوكة لمواطنين فخورين استطاعوا أن يهتموا بجودتها ويحافظوا عليها. وأعلم أن سنغافورة لن تحقق الاستقرار السياسي إلا بوجود حكومة تتبنى وتعي أهمية تملك الأسر للمساكن، وما يحفزني إلى هذا هو أن أوفر لكل رب أسرة يخدم الوطن استقرارا نفسيا يمكنه من خدمة وطنه بشكل أفضل، كذلك لا أريد أن يشعر أي جندي يدافع عن البلد بأنه يدافع عن ثروات الأغنياء وممتلكاتهم، بل يدافع عن وطنه الذي يمتلك هو وأبناؤه جزءاً منه"، كانت هذه الرؤية للقيادة هي نقطة التحول في سياسة الإسكان والنمو المضطرد لمعدل تملك المساكن، حتى أصبح 90.8 في المائة من الأسر السنغافورية تمتلك مساكنها في 2015، ومن لم يستطع التملك بسبب الضعف الشديد في دخله توفر له الحكومة إيجار مسكن بدعم سخي جدا.
المبدأ الثاني توسيع قاعدة الدعم ومحاولة جعل أغلب الأسر تدخل ضمن دائرة الدعم الحكومي لتملك المساكن، وهي ضمن سياسة رفع جودة الحياة ومستوى الرفاهية، حيث إن المسكن والصحة والتعليم تعتبر من الخدمات التي تدعمها الحكومة لأكبر شريحة ممكنة من المواطنين وليس الفقراء فقط، ففي بداية عمل مجلس التنمية والإسكان كانت الوحدات السكنية تباع للمواطنين بسعر بخس جدا حتى إن أصحاب الدخل المتدني يستطيعون شراء شقة سكنية بسهولة، ثم تطور الأمر بعد ارتفاع نسبة التملك ليصبح الدعم عبارة عن معدل خصم لتكلفة المسكن الحكومي وفقا لمستوى الدخل، إضافة إلى دعم مالي مباشر للشراء يعتمد كذلك على مستوى الدخل. والمبدأ الثالث يعتمد على الأمان المالي خاصة للمتقاعدين وذلك ببرامج تضمن استدامة وصلاحية الوحدات والمجمعات السكنية من التهالك وجعلها وسيلة استثمارية للمتقاعدين الذين لم يعودوا في حاجة إلى مساحات المنازل الكبيرة وجعلها أصولا مدرة لهم ببرامج متعددة تقدمها وتديرها الحكومة. أما المبدأ الرابع فيهتم برفع جودة الحياة وذلك بتبني مشاريع الإسكان ذات الجودة العالية التي حصل أحدها على جائزة عالمية من أحد برامج الأمم المتحدة في 2010، فلم يعد بناء المساكن هو الهم الأكبر لكن أصبح الهم هو بناء مساكن ذات جودة عالية لتحقق رفاهية الأسرة. وأخيرا المبدأ الخامس الذي يعتني بالجانب الاجتماعي للسكن وذلك بتحفيز الاستقرار السكني للأسر وتوجيه الدعم الأكبر للأسر ذات الأعداد الكبيرة وتوفير مساكن ذات مساحات كبيرة لهم، وذلك لتشجيع المواطنين لتكوين الأسر ورفع معدلات الإنجاب.
الخلاصة، بدأت قصة نجاح سنغافورة بعد الفشل الذريع بسبب وجود رؤية وقيادة واعية لأهمية المسكن في استقرار الأوطان والمجتمعات، وكانت سياسة الدعم شاملة قدر المستطاع لأغلب شريحة مواطنين وغطت مبادئها الجوانب المالية والاجتماعية والثقافية لتنعم الأسرة السنغافورية بالراحة والاستقرار وتشعر بالمواطنة خاصة في بلد متعدد الأعراق، الدروس المستفادة من قصة النجاح كثيرة لكن تحتاج إلى إرادة وإدارة تحول الأفكار إلى واقع ملموس ومشاهد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي