قضايا تعوق تطوير العمل في القطاع الخاص

في المقال السابق تحدثت عن بعض معوقات التطوير في القطاع العام، واليوم سأناقش بعضا منها في القطاع الخاص، ومع الإقرار بصعوبة تحليل القطاع الخاص في المملكة لحجم التنوع فيه، إلا أنني سأركز على أهم القضايا التي تعوق التطوير، لعل أكبر هذه القضايا هي العصامية، فكثير هم العصاميون في القطاع الخاص، يحدثونك دائما عن رحلتهم ونضالهم الطويل، ولا شك أن هذا صحيح في غالبه وجميل جدا، بل مدهش في بعض الأحيان، لكن العصاميين بطبعهم لا يثقون في غيرهم، ولا في أي إنجاز لم يكن تحت إشرافهم الكامل، لديهم "فوبيا" من عمل الفريق المؤسسي، فالأفكار أو المقترحات والمبادرات إذا لم تبدأ منهم فلن تبدأ من غيرهم.
مدهشون، يعملون ليل نهار، وإذا عملت معهم فتوقع اتصالاتهم حتى في ساعات الليل المتأخرة، ولا يأخذك العجب إذا تحدثوا حينها من موقع المشروع مباشرة فساعات العمل لديهم لا تعني أكثر من ساعات عملهم هم؛ بهم يبدأ الدوام وبهم ينتهي. العصامية رائعة لكنها محدودة ومهما بلغت ذروة أعمالها فلن تستطيع تحقيق تحولات مؤسسية كبيرة إذا لم يتخلّ المؤسس عن عصاميته، حتى لو حققت المؤسسة تحولا قانونيا فستحيا المؤسسات الخاصة بالعصاميين ولكنها تموت معهم أيضا، وفي هذا لا يغرنك حجم المؤسسة مهما تزايدت أعمالها، ستأتي لحظة وتموت كلما تهالكت قوى الرجل العصامي فيها.
الولاء، هو عندي ثاني أكبر مشكلات القطاع الخاص في المملكة، فالكثير منا لا يؤمن بروح الفريق، ولا نؤمن بالمؤسسات ككيانات لها وجود معنوي في ذواتنا، وهي مشكلة تواجه السعودة، وتسببت في خلط أوراق وزارة العمل ونظام العمل. مشكلة الولاء تتسبب في التغيير المستمر السريع في القيادات وفي موظفي الإدارات الوسطى، وعقود العمل لم تشفع في الحد من هذه الظاهرة. وكي نفهم هذه المشكلة بشكل أعمق يمكن القول إن في العالم نموذجين لبناء الولاء وهما متنافسان، الولاء للمهنة والولاء للمؤسسة، في الولايات المتحدة مثلا فإن ولاء الشخص لمهنته وليس للمؤسسة التي يعمل بها، أو على الأقل ليس بالقدر نفسه، فالمهنة هي من يهتم به، وتحميه، وتقدم له الدعم النفسي والاجتماعي، وهناك لقاءات دورية بين أفراد المهنة الواحدة، فالمهنة وتجمع المهنيين يحميان المنتسبين ويحميان لهم مستويات الدخل والعوائد ويراقبان الدخول إلى المهنة من غير المصرح لهم، وهما يحفزان الوضع الاجتماعي ويحسنان من صورتهم الاجتماعية ويراعيان مصالحهم بصورها كافة. والنظام هناك يمنح الشهادات المهنية ويقدم تزكياته للأفراد، والترقيات، والنمو في الدخل الفردي ليس مرتهنا بما يقدمه الفرد من خدمات للمؤسسة، بل بما يحققه من تطوير مهني ترعاه المهنة. في الصورة المقابلة ترى اليابان في رهان على الولاء للمؤسسة، فالمؤسسة عائلة أخرى للموظف، النمو في دخله يأتي بسبب نمو دخل المؤسسة، سمعة المؤسسة هي التي تمنح الموظف قيمة في المجتمع بغض النظر عن مؤهلاته ومهنيته، ومن فشل في تحقيق نجاح للمؤسسة فهو بالضرورة فاشل مهنيا مهما كانت شهاداته واحترافيته. هناك الكل يرى ذاته في المؤسسة، ولا أحد هناك يخون مؤسسته، فمن يخون عائلته؟ لقد حققت التجربة اليابانية نجاحات وتم نقلها إلى دول كثيرة، إنها جديرة بالاحترام، ومن خلال هذه الفلسفة أبدعت اليابان نظريات الجودة وغيرها، ما مكنها من احتلال مكانة اقتصادية عظيمة في العالم على الرغم من أنها عجزت عن تحفيز اقتصادها طوال عقود، لكنها لم تفقد مكانتها.
ما يعوق الإبداع في العمل لدينا هو فقدان الولاء سواء للمؤسسة أو للمهنة، هذا من أهم عوائق التطوير في القطاع الخاص، الولاء المهني شبه مفقود بين الشباب خاصة، وهي مشكلة كبيرة تقف حاجزا أمام تطوير الذات والصبر على متطلبات المهنة سواء في ساعات التدريب أو شهاداتها واختباراتها المهنية، وقد يكون اللوم على الهيئات المهنية نفسها، لكن ماذا عن ضعف الولاء المؤسسي، فلا ولاء للمؤسسة الاقتصادية التي يعمل بها الموظف إلا ما ندر. إننا أمام مشكلة هائلة في تطوير القطاع الخاص. وحل مشكلة الولاء مرتبط تماما بحل مشكلة العصامية التي ذكرت، يجب أن تصبح المهنة والمؤسسات في القطاع الخاص حاضنة اجتماعية لموظفيها، فالتعويضات المالية التي تدفعها المؤسسات لتجنب صداع العلاقة الاجتماعية مع الموظف لن يزيد مشكلة الولاء إلا تعقيدا مهما كان حجم هذه التعويضات، لكن إذا تم تحويلها إلى عوائد مادية اجتماعية ملموسة كلما كان الولاء أكبر، فبدلا من دفع بدل للسكن من الأفضل توفير إسكان في مجمعات لها مزايا خاصة مثل الأمن والحدائق والترفيه، وبدلا من دفع تكاليف المدرسة يمكن التعاقد مع مدارس معينة وتأمين نقل الطلاب، وغيرها كثير من المزايا التي تجعل الموظف يشعر أن المؤسسة ترعاه وترعى أسرته وهي حاضنة اجتماعية له، لكن هذا مرتهن بتخلص المؤسسة من وهم القائد العصامي الذي يعتقد بأنه أسس هذه المنظمة وحيدا وهو قادر على المضي بها وحيدا أيضا، فلا ولاء يهمه ولا موظف يعنيه.
ترتبط مشكلتا العصامية والولاء بمشكلة أكبر وهي القيم في مؤسسات القطاع الخاص، وأقصد القيم التي تضعها المؤسسة كشعار لها بعد الرؤية والرسالة، هذه القيم ليست أكثر من تعبئة مساحة فارغة في الخطط يتم تغطيتها ببعض العبارات مثل القيم الإسلامية والجودة والأمانة والصدق، وعبارات كأنها موضوعات مادة التعبير في المرحلة المتوسطة. القيم موضوع ضخم جدا، ويجب أن تأخذ وقتا وعمقا أكبر، القيم هي التي تحرك الموظف في تعاملاته ويلمسها العميل في المنتج ويشعر بها، في المؤسسات الناضجة تصل القيم إلى المنتجات ويدفع المستهلك في مقابلها، فبعض القيم العامة لا تنفع وتقدم قيمة للمؤسسة مثل قولنا الالتزام بالقيم الإسلامية، هذه عبارة واسعة جدا ومن الصعب أن يشعر بها العميل في المنتجات، وظهورها في كل المؤسسات تقريبا يجعل قيمتها عند القرار صفرا. قيم مثل الانضباط جيدة في مؤسسات معينة لها منتجات تسلم بشكل محدد ومنضبط، أو خدمات تحتاج إلى ضبط مثل الأمن، لكن لا معنى لها في مؤسسات تقدم منتجات بلاستيكية مثلا، فكيف يشعر العميل بالانضباط في منتج بلاستيك، كيف يقوم الموظف بنقل انضباطه إلى المنتج، إذا لم يتمكن الموظف من تحقيق هذا فلن يهتم بالقيمة التي تسعى الشركة إلى تعزيزها فيه، وإذا لم يحدث ذلك فلن يكون هناك فرق بين من التزم وغيره؛ وبهذا ستكون فرص تطوير العمل أقل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي