تخفيض إنتاج البترول .. نظرة إيجابية
عندما التحقت بشركة الزيت العربية الأمريكية "أرامكو" في وسط الستينيات كمهندس بترول، كانت أغلبية فترات عملي في الشركة في قسم الإنتاج. وكنت ألاحظ آنذاك تذمر الأمريكان من تكرار تخفيض الإنتاج لفترات قصيرة بسبب توقف تصدير البترول من ميناء رأس تنورة. وكان السبب الرئيس في معظم الحالات يُنسب إلى الأحوال الجوية التي كانت تعوق تحميل السفن الناقلة للبترول. هذه الإشكالية انحلت بعد سنوات عن طريق تطوير مرافق التحميل وحمايتها من الأمواج البحرية الهائجة. ولكن الشاهد هنا هو أن الشركة كانت تعد توقف الإنتاج لأي سبب خسارة كبيرة. وأنا كنت على العكس من ذلك تماما. كنت أرحب بأي طارئ يخفض الإنتاج. وأقول لزملاء العمل، بمن فيهم الأمريكان، إن تخفيض الإنتاج بالنسبة لنا كمواطنين مكسب وليس خسارة. فالبترول الذي يظل في مكامنه نعتبره في مكان آمن سوف نجده في المستقبل. أما ما ينتج منه ويباع في الأسواق، فقد فقدناه إلى الأبد دون تجديد أو تعويض. ونحن نعلم آنذاك لماذا شركة أرامكو في ذلك الوقت تعد وقف أي كمية من الإنتاج خسارة Production loss or loss of production.
كانت شركة الزيت العربية الأمريكية، حينئذ، تدير أعمال الإنتاج لمصلحة أربع شركات أمريكية، بموجب عقد مع الحكومة السعودية مدته ما يقارب ستة عقود، تبدأ من عام 1933 (سنة ميلاد محدثكم). وكان هدفهم الرئيس إنتاج أكبر كمية ممكنة من البترول وتحقيق أضخم دخل خلال مدة العقد، فذلك ما أتوا من أجله. ولم نكن نلومهم، فقد كان ذلك من حقهم ما دمنا لم نحدد مستوى الإنتاج المطلوب في بنود الاتفاقية. ودار الزمن وانتقلت المسؤولية إلى الشركة الوطنية، «أرامكو السعودية». وأصبح من حقنا أن نتصرف بإنتاج البترول بالطريقة التي تخدم مصلحتنا ومستقبلنا، أو هكذا كان يجب أن تكون الأمور. إلا أننا وجدنا أنفسنا، ومعنا الشركات الوطنية الأخرى في الخليج والشرق الأوسط، نمارس المبدأ نفسه الذي كانت تمارسه الشركات الأجنبية عندما كانت تدير الإنتاج. فأي تخفيض للإنتاج، سواء كان ذلك طوعيا أو قسريا، نعده خسارة، كما لو كنا لن نستطيع إنتاجه في المستقبل. وهو عكس الواقع، فالبترول الذي يظل في مكامنه هو بطبيعة الحال في متناول أيدينا. ومن شبه المؤكد أن قيمته في المستقبل سوف تكون أعلى بكثير من قيمته الحالية. وأهمية بقائه تحت الأرض مدة أطول لا تخفى على من يفكرون في مستقبل الأجيال. ولعل هذه الفلسفة تفسر لنا ما هو حاصل اليوم في رحاب المنتجين، من التلكؤ وعدم الرغبة في تخفيض الإنتاج حتى ولو كانت النتيجة سوف تقود حتما إلى زيادة الدخل، مع توفير كميات هائلة من البترول، وهي دون أي شك فلسفة خاطئة. بل الأدهى حول هذا الأمر، أن بعض المنتجين يحاولون التهرب من التقيد بالاتفاقات الجماعية لخفض الإنتاج، التي هدفها الصالح العام للجميع. وذلك اعتقادا منهم أن أي تنزيل في كميات الإنتاج خسارة، تقليدا لما كانت تنتهجه في الماضي الشركات الأجنبية.
ولو أن الجميع أدركوا أهمية وضرورة الحفاظ على الثروة البترولية، لتسابقوا إلى تخفيض الإنتاج بنسبة أكبر، وبأسرع وقت ممكن. فنحن نسمع الآن من وسائل الإعلام أن بعض المنتجين سوف يتباطؤون في بدء الخفض المتفق عليه أخيرا، وهو ما سيؤخر فاعلية ارتفاع الأسعار. فضلا عن أن التخفيض المزمع تنفيذه لن يرفع سعر البرميل إلا بنسبة متواضعة. وكان بإمكان دول التصدير أن تعيد معدل السعر إلى سابق عهده في منتصف عام 2014، وهو من حقهم. فلم يكن نمو الاقتصاد العالمي خلال السنوات القليلة الماضية في حرج من مستوى الأسعار. فقد وصل إلى ما فوق 120 دولارا للبرميل وانخفض إلى ما دون الـ30، ولم نسمع نتيجة لذلك التذبذب الحاد لا تذمرا من الارتفاع ولا فرحا بالنزول الكبير. فقد كان هناك تعايش مع الظروف المختلفة. وهو ما يدعو إلى عدم القلق على مصير الاقتصاد العالمي تحت الظروف المتغيرة. وليس في مصلحة الجميع أن نستنزف المصادر البترولية الرخيصة ونضطر مبكرا إلى اللجوء إلى البترول غير التقليدي المكلف، الذي لن يكون كافيا لتعويض الانخفاض الطبيعي للبترول التقليدي الرخيص.
فلو أن دولة ما، كان تصديرها اليوم ثلاثة ملايين برميل، وتبيع بسعر 50 دولارا للبرميل، فيكون دخلها اليومي 150 مليون دولار. ثم قررت تخفيض إنتاجها، مع دول منتجة أخرى، 500 ألف برميل. وبلغ مجموع التخفيض من عدة دول أربعة ملايين برميل. وهذه كفيلة بأن ترفع السعر إلى 100 دولار، وهو المستوى الذي كان عليه قبل حدوث أزمة الأسعار منتصف عام 2014. وأصبح دخل الدولة التي نحن بصددها 250 مليون دولار. أي بزيادة 100 مليون دولار في اليوم الواحد. وفي الوقت نفسه، تكون قد وفرت للمستقبل يوميا 500 ألف برميل، أو سنويا أكثر من 180 مليون برميل رصيدا للمستقبل. ويأتي من ينبهك إلى أن «الصخري» قادم، بمليون برميل سنويا. وهو لن يتكامل إلا بعد أشهر طويلة، تكون قد ربحت كثيرا من المال والبترول. ثم تتذكر أن الطلب العالمي ينمو بأكثر من مليون برميل سنويا، وهذا كفيل بأن يبتلع نمو «الصخري» وتظل الأمور حسبما كانت عليه في بداية التخفيض. والأمور لن تكون بهذه البساطة، ولكنها قريبة من ذلك.