كيف استسلمنا لهيئة الاتصالات؟

بين الحين والآخر، نجد أنفسنا أمام شكوى جديدة من سوء خدمة الاتصالات. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك عند كل شعوب العالم لارتباط الاتصالات بحياة الفرد اليومية، وفي الغالب يختم النقاش باستسلام لوضع لا حل له، لكن في الآونة الأخيرة نظّم الناس حملة مقاطعة لشركات الاتصالات في المملكة كردة فعل على ما شعروا به من استغلال منهم. السؤال هو: هل ما يحدث من شركات الاتصالات أمر مقبول؟ إن لم يكن مقبولا، فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟
موقف هيئة الاتصالات ليس مستغربا، ولكنه بكل تأكيد ليس مقبولا أبدا، فخدمات الاتصالات تعد ركنا أساسيا في حياة الفرد اليومية؛ وهي الشريان المغذي لقطاع الأعمال وأصبح توفيرها بالشكل السليم ركيزة رئيسة لأي خطة واقعية للنهوض الاقتصادي. وقد يظن البعض أننا نبالغ لو قلنا إنه يجب أن نعتبر قضية توافر الإنترنت قضية أمن قومي، لكنها واقعيا كذلك، وتم إنشاء وحدات عسكرية تختص بحماية الأمن الإلكتروني في عديد من دول العالم.
أما عن كون الموقف ليس مستغربا، فيجب علينا تحليله وفهم القرارات التي أوصلتنا إليه؛ لذلك سأقوم باعتماد بعض من المسلّمات التي ستساعدنا على فهم الموقف:
1 - ضعف تشريعات المنافسة العادلة بالمملكة، والمقصود هنا منافسة المحتكر في السوق ككل وليس شركات القطاع في ما بينها.
2 - تم تزويد شركات الاتصالات بامتيازات خاصة دون قيود صارمة على كيفية الاستفادة من عوائدها.
3 - تهدف الشركات إلى الربح المادي البحت ولا يتم تقييمها إلا على ذلك، باعتماد هذه المسلمات يمكننا الوصول إلى تفسير لأزمة خدمات الإنترنت في المملكة العربية السعودية.
تضعف لدينا تشريعات المنافسة العادلة، وحقيقة لا يمكننا لوم أحد فاقتصادنا لا يزال يافعا ولم يعانِ كثيرا من مشاكل الاحتكار المعقدة، فلدينا بعض اللجان المنظمة للاحتكار بهدف حماية المستهلك من الأسعار المرتفعة، لكن لا يتم النظر للأضرار التي يصعب قياسها مثل جودة المنتج أو الخدمة المقدمة. لنأخذ خدمة الإنترنت مثالا على خدمة تردت جودتها بسبب ضعف التشريعات هذه. عندما وصل الإنترنت للسعودية في أواخر التسعينيات الميلادية، قبل البرودباند (Broadband) وبيانات الجوال (4G)، كان المستخدم يصل إلى الشبكة عبر الهاتف الثابت (Dial-up) وكان عدد مقدمي الخدمة يتجاوز خمس عشرة شركة لا تشمل شركات الاتصالات. كان الوصول لمزود الخدمة يتطلب استخدام شبكة الهاتف، وفي بادئ الأمر، كان المستخدم يحاسب على أنها مكالمة هاتف عادية إضافة لاشتراك يدفع حسب اتفاق مع مزود الخدمة. كانت المنافسة عالية بين مقدمي الخدمة، وجودة الشبكة كانت رائعة بالنسبة إلى ذلك الزمان. لكن في عام 2005 أطلقت شركات الاتصالات خدمة لتسهل الوصول إلى الشبكة وتسجيل رسوم اشتراك الخدمة على الفاتورة بدلا من مراجعة مزود الخدمة، وللأمانة قامت الشركات بتوفير الخدمة لجميع مزودي الخدمة الراغبين في الحصول عليها. بعد ذلك بدأت شركات الاتصالات بلعب دور مزود الخدمة، مستغلة امتيازاتها الخاصة بخدمات الهاتف، موفرة خدمات - في بادئ الأمر - كانت هي الأفضل من ناحية السعر والجودة، ثم استحوذت على السوق كاملا وتدنت الجودة بشكل ملحوظ جدا. ولأن الامتياز كان مخصوصا بشركات الاتصالات دون غيرها الشركات الوحيدة ذات الامتياز، انعدمت المنافسة واستمرت الجودة على حالها الرديء. ثم أتت محاولات لتعزيز المنافسة بالقطاع ككل (جوال وإنترنت) لكنها أنتجت ما يسمى "احتكار القلّة"، ولعله كان من الأجدر أن تمنع هيئة الاتصالات الشركات من إساءة استعمال امتيازها، ولكون الشركات تهدف إلى الربح المادي البحت، لا يمكننا لوم مسؤوليها على ترك الجودة تتردى، فهم ليسوا مسؤولين عن جودة الخدمة ودورهم يقتصر على رفع أرباح الشركة، والقانون لا يصنف فعلهم احتكارا.
استمر الحال وما زالت جودة الخدمة تتردى بشكل مستمر حتى أصبحنا نتعرض لأسوأ أشكال الاحتكار، فهيئة الاتصالات اليوم تمنعنا من التقنيات الحديثة من أجل الحفاظ على أرباح شركات الاتصالات ولا يوجد ما يردها - قانونيا - عن ذلك، فلا تزال اليوم تشريعات المنافسة العادلة ضعيفة، ولا نزال اليوم، بعد عشر سنوات من منح شركات الاتصالات احتكارا غير مقنن على خدمات الإنترنت، نجد أنفسنا نشتكي من استغلالها المستمر وليس بيدنا سوى مقاطعة خاوية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي