عائلتي أولا «2»
نشرت قبل أسبوعين الجزء الأول من مقال بعنوان "عائلتي أولا" وهو مقتبس من عنوان كتاب لعالم النفس الشهير فيليب كالفنماكجر والمعروف بـ "الدكتور فيل". والآن أريد أن أستكمل الجزء الثاني، وسأركز هنا على نماذج الأسرة وأنماط الأبوة. فقد ذكرت في الجزء الأول أننا نريد أن ننظر إلى الأسر على أنها منظمات وأن الآباء هم القادة. وبناء على ذلك تمت استعارة نظرية الشبكة الإدارية لـ "بليك وموتون" وهي من أبرز نظريات القيادة، ولكن تم تكييفها من أجل أن تساعدنا على التعرف على أنماط الأبوة السائدة. وتم تصنيف الآباء بناء على اهتمامهم بأسرهم واهتمامهم بوظائفهم.
وقد أظهر لنا هذا التصنيف عدة نماذج. النموذج الأول يطلق عليه "اللامبالي" وهو الأب الذي يهمل عائلته ووظيفته معا. النموذج الثاني يطلق عليه "شهيد العمل" الذي يتمثل سلوكه في الاهتمام التام والكامل بالعمل "الوظيفة" على حساب الأسرة. النموذج الثالث وهو الأب الذي يعطي الاهتمام الكبير بالأسرة على حساب العمل والوظيفة. أما النموذج الرابع فهو الأب الذي يقسم وقته واهتمامه بين الوظيفة والأسرة. النموذج المثالي هو النموذج الخامس الذي يطلق عليه "لآباء المبدعون" وهم الذين يعطون اهتماما كبيرا للوظيفة واهتماما شديدا أيضا للأسرة. الآباء المبدعون لا يقدمون جهدهم واهتمامهم مناصفة بين الاهتمام بعائلاتهم والاهتمام بأعمالهم كما في النموذج الرابع بل يعطون كامل الجهد للوظيفة وكامل الجهد والاهتمام للأسرة وبالقدر والكفاءة أنفسهما.
وأريد في هذا المقال أن أركز على النموذج الأخير "الآباء المبدعون" وكيف نصبح جميعا آباء مبدعين نجمع بين بناء أسر متألقة ونجاح في ميدان العمل وطلب الرزق؟ كيف يمكن لنا أن نكون مبدعين في مهمتنا كآباء ومتألقين في أعمالنا كموظفين في هذا العصر المتسابق، وهذه الظروف التي تحيط بنا من كل جانب، وهذه الأزمات المالية التي تعصف باقتصادات الدول والأفراد؟ مهمة كهذه تتطلب منا إتقان مهارتين أساسيتين الأولى تربوية والثانية إدارية.
أولا: ينبغي أن نتبنى العمل الجماعي وتوزيع الأدوار وتفويض المهام غير الجوهرية لأفراد الأسرة وللأفراد في العمل. فنحن إن كنا آباء فنحن أيضا موظفون ولدينا أعمال تستنزف جل وقتنا. على الأب الذي هو في الأصل موظف أن يحدد الأعمال الجوهرية الخاصة بالأسرة وتلك الخاصة بالعمل، حيث تكون مرتبطة به وتحت إشرافه مباشرة، أما بقية الأعمال فيمكن تفويضها لبعض أفراد الأسرة ولمن يثق بهم في العمل. الآباء المبدعون لا يقومون بكل شيء لا في أداء أعمالهم في المنظمات ولا في إدارة العائلة بل يوزعون مهامهم ويحتفظون بالجوهرية منها في أيديهم. بالنسبة للعمل يصعب تحديد طبيعة الأعمال الجوهرية التي ينبغي للأب أن يفوضها في عمله لأن طبيعة الأعمال تختلف، فالأب يمكن أن يكون موظفا حكوميا وممكن أن يكون رجل أعمال، أو طبيبا أو معلما أو مهنيا أو حرفيا أو مديرا تنفيذيا أو غير ذلك. كما أن أسلوب القيادة المتبعة يختلف باختلاف المنظمات.
أما في مجال الأسرة فالجميع تقريبا متساوون من حيث المهام العائلية، ويمكن أن نبين كيف يقوم الفرد كأب بتوزيع الأعمال داخل الأسرة. على رب الأسرة أن يحدد إطارا عاما تسير عليه عائلته، ويكون حازما فيمن يتخطى ومن يستهتر بالقيم الجوهرية للعائلة، التي يمثل اختراقها اختراقا لدستور العائلة، وعليه أن يكون مراقبا لهذه النقاط ويفوض الأم ببعض المهام ويوزع على أعضاء الأسرة المهام الأخرى. فمثلا التسوق وشراء مستلزمات الأسرة قد تكون مهمة الزوجة والإشراف على وجود الأبناء داخل المنزل قد يكون من مسؤولية أكبر الأبناء أو البنات، أو أي فرد يرى الأب أنه سيؤدي هذه المهمة بنجاح فهو يعرف أبناءه ويعرف قدراتهم واستعدادهم. ويفترض أن تكون مهمة الابن هنا إشرافية ولا يأخذ دور الأب في الثواب والعقاب لأن بعض الأبناء قد يتعدى حدوده فيستغل صلاحياته الممنوحة له من أبيه في التدمير بدلا من البناء.
حتى يتأكد أن الأمور تسير على ما يرام على الأب أن يغيب عن البيت لعدة أيام كل عدة أشهر بعد أن يوزع المهام على الأسرة ليرى كيف تسير الأمور، ثم يقيم كل فرد ومدى استعداده وقدراته ولا يمنع من استخدام الثواب والعقاب لتصحيح أي انحراف يراه. إن مهمة إدارة الأسرة مهمة مشتركة بين جميع أفرادها وليست مقتصرة فقط على الأب والأم بل الجميع يشارك في البناء، ولو أن الأب يتحمل الجزء الأكبر، ولكن ليس كامل الحمل فكل فرد من أفراد الأسرة له دور يؤديه من أجل بناء عائلة سعيدة ناجحة حالمة متألقة قدوة لمن حولها ولمن سمع عنها.
إن طريقة توزيع المهام من قبل الأب لبعض أفراد الأسرة والثقة بمن حوله سوف توفر له الوقت في التركيز على أهدافه الشخصية في العمل وتحقق ذاته، ولكن إن تعارضت مصالح الوظيفية مع مصالح العائلة فتظل العائلة هي المقدمة وهي الأولى بالاهتمام، ولكن لا يعني ذلك عدم الاهتمام بمصدر الرزق وجلب الأموال وتنمية الذات.
ونحن عندما نُذكّر بالأسرة والاهتمام بها ونضع بين يدي القراء مثل هذه الآليات لا نقول إن كل هذا سيفيد، وإن كل من يتبع هذه سيقوم بنقل الأسر من الثرى إلى الثريا ومن القاع إلى القمة لأنه يبقى قبل هذا وبعده وخلاله توفيق الله ـــ سبحانه وتعالى ــ فإذا رافق ذلك الاستعانة بالله وطلب التوفيق منه سبحانه فستكون النتائج موفقة والجهود مباركة.