عودة التجارة إلى مسارها الطبيعي
في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد العالمي تباطؤ النمو، تراجع التأييد السياسي للتجارة الدولية الحرة، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة وخصوصا الولايات المتحدة. وبما أن المعارضة للتجارة الحرة ليست أمرا جديدا، فإنها لم تؤد من قبل إلى توقف عملية تحرير التجارة في مرحلة ما بعد الحرب، التي كانت السبب في نمو الاقتصادات المتقدمة والتقارب بين أنصبة الأفراد من الدخل في عدد كبير من البلدان النامية.
ولا تزال معارضة التجارة هي رأي الأقلية ــــ فالتجارة تعود بالنفع على معظم الشعوب، ولكن يبدو أن عدد معارضيها المسموعين قد زاد كثيرا في الوقت الحالي. وتمكن التجارة البلدان من استخدام مواردها بكفاءة أكبر، ولكن قد لا توزع المكاسب المحققة من زيادة الكفاءة بالتساوي بين المواطنين، ما يعني خسارة البعض. وقد ينتج عن ذلك مزيد من عدم المساواة في الدخل واضطراب الحياة.
وخلال ربع القرن الماضي، شهد الاقتصاد العالمي تحولا هائلا بفضل زيادة التجارة والتغيرات التكنولوجية والسياسية. ورغم التقدم الكبير المحرز على المستوى العالمي، لم تضمن معظم الحكومات تقاسم مكاسب النمو الاقتصادي بين جميع مواطنيها ــــ بما في ذلك الناتجة عن التجارة. وفي بعض البلدان، أثار ضعف وتباطؤ النمو الكلي للدخل موجة غضب جامحة.
ودائما ما كان توزيع الفوائد التجارية غير متكافئ بين المواطنين، ومن الممكن أن يكون الأمر قد ازداد تفاقما في السنوات الأخيرة. ولكن أصبحت مكاسب التجارة أكثر أهمية في ظل تراجع النمو في الوقت الحالي؛ لذا يتعين على البلدان حماية هذه المكاسب وزيادتها من خلال وضع سياسات تعيد توزيع هذه المكاسب بعدالة أكبر. ومن شأن ذلك زيادة قدرة الاقتصادات على الصمود في وجه مختلف قوى السوق بخلاف تلك المرتبطة بالعولمة.
منذ الحرب العالمية الثانية، ساعد الخفض التدريجي في الحواجز التجارية مثل التعريفة الجمركية وأنصبة التجارة على دعم النمو والرخاء في جميع البلدان التي قامت بذلك ــــ بما في ذلك من خلال توفير مجموعة أكبر من السلع بأسعار أقل للأسر. والأهم من ذلك أن للتجارة تأثيرا إيجابيا قويا أيضا في الإنتاجية ــــ أي كفاءة استخدام الموارد العالمية في إنتاج السلع الاقتصادية. ومن المهم للغاية جني هذه المكاسب في ظل التباطؤ الاقتصادي الحالي.
وتؤيد الأبحاث التجريبية وجهة النظر الأساسية لريكاردو بشأن دور التجارة في تعزيز الإنتاجية، ولكن مكاسب الإنتاجية والنمو الناتجة عن التجارة تتجاوز بكثير ما أشار إليه ريكاردو. فعند السماح بالتجارة، تجبر المنافسة المنتجين المحليين على تحسين إنتاجهم. وكذلك تتيح التجارة مجموعة أكبر من مدخلات الإنتاج الوسيطة التي يمكن للشركات استخدامها في الإنتاج بتكلفة أقل. وأخيرا، يمكن للمصدرين تعلم تقنيات أفضل من خلال مشاركتهم في الأسواق الأجنبية، ويُجبرون على المنافسة على جذب العملاء من خلال زيادة الكفاءة وتحسين جودة الإنتاج.
وفي عالم ريكاردو، تمثل التجارة تكنولوجيا جديدة أفضل تتاح لجميع البلدان عند فتح حدودها ويمكن للجميع الاستفادة منها بالتساوي.
وأحيانا ما يكون للتجارة هذا الأثر، ولكن هذه النتائج الإيجابية للتجارة لا تسلط الضوء على أسباب الاعتراض الشديد من جانب البعض عليها.
وثمة جانبان أساسيان للتجارة يساعدان على تفسير هذه المعارضة. أولا، توجد تكلفة قصيرة الأجل لإعادة استغلال موارد الاقتصاد خارج القطاع الذي ينكمش بسبب التجارة الحرة. فبعض العاملين محصورون في قطاع صناعة الأنسجة الآخذ في الانكماش، وفي العالم الحقيقي، يمكن أن تكون التكلفة وأوجه عدم الكفاءة طويلة الأجل ومضرة للبعض، ما يشعرهم بأن المكاسب التي يحققها الاقتصاد في الأجل الطويل مجرد مكاسب نظرية لا تعود بالنفع عليهم.
وثانيا، حتى إن لم تنشأ أي مشكلات بسبب التكيف مع تلك الآثار، من شأن التجارة التأثير سلبا في توزيع الدخل المحلي وجعل البعض أسوأ حالا بالقيمة المطلقة. وفي هذه الحالة، ورغم أن البلد ككل يشهد زيادة في الإنتاجية والدخل، قد يحقق البعض مكاسب مفرطة، بينما يخسر البعض تماما. ويرى الخاسرون أن التجارة مجحفة في حقهم.
ولا تنتج آثار إعادة التوزيع تلك كما يُطلق عليها عن العولمة فحسب، بل من خلال التطورات التكنولوجية التي تعود بفائدة أكبر على بعض قطاعات الاقتصاد مقارنة بغيرها. وتتسلسل الأحداث على النحو نفسه إذا أتاح التطور التكنولوجي زيادة إنتاج الأنسجة بالمدخلات نفسها من العمالة الماهرة وغير الماهرة. ونظرا لأن التجارة مشابهة للتطور التكنولوجي، ليس من المستغرب أن يؤدي التطور التكنولوجي إلى إعادة توزيع الدخل على غرار التجارة. ولكن رغم تشكك أقلية كبيرة في أثر التجارة، يتفق الجميع على زيادة الإنتاجية.
ومن أهم التحديات التي ينطوي عليها فهم العلاقة بين العولمة وعدم المساواة في الدخل استبعاد الآثار المهمة للعوامل الأخرى، مثل التغيرات التكنولوجية. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن العولمة والتكنولوجيا تربطهما حلقة من الآثار المرتدة الإيجابية ــــ فتشجيع العولمة للتقدم التكنولوجي من أهم مصادر المكاسب المحققة من التجارة.
على الرغم من تراجع عدم المساواة في الدخل إلى حد ما بين البلدان خلال العقود الأخيرة، نجد أنه قد زاد دخل عديد من البلدان. فقد أدت التجارة والتكنولوجيا إلى زيادة التقارب العالمي في الدخل لمصلحة العديدين في البلدان الأفقر من جهة، وإلى تغيير أنماط الإنتاج وتوزيع الدخل داخل البلدان من جهة أخرى.
ونجد أكثر الأمثلة وضوحا على تراجع عدم المساواة بين البلدان في آسيا، ولا سيما صعود منطقة هونج كونج الإدارية الخاصة وكوريا وسنغافورة ومقاطعة تايوان الصينية إلى مصاف البلدان مرتفعة الدخل والنمو الاقتصادي الأخير في الصين والهند. فقد ارتفع نصيب الفرد في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في الهند من 553 دولارا أمريكيا عام 1991 (على أساس قيمة الدولار عام 2010) إلى 1806 عام 2015، بينما شهدت الصين ارتفاعا أكبر بكثير من 783 دولارا أمريكيا عام 1991 إلى 6416 دولارا أمريكيا عام 2015. ونظرا لارتفاع عدد السكان في البلدين، أدى نجاح الصين والهند إلى تراجع كبير في عدم المساواة بين سكان العالم. وتباطؤ النمو في أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء لم يخفض الفجوة بينهما وبين البلدان الأكثر ثراء بالسرعة نفسها، ولكن تراجعت نسبة انتشار الفقر تراجعا كبيرا في البلدان الأفقر.
ويعزى جزء كبير من التقدم المحرز نحو تقارب الدخل وتراجع الفقر إلى التجارة والاستثمار العالميين ــــ وإن لم يكن ذلك بسبب سياسات التجارة الحرة في عديد من الحالات، فهو بسبب التوجه الخارجي للإنتاج.
* مستشار في صندوق النقد