هل من مراجعة وتقويم صادق؟
تمثل المراجعة شكلا من أشكال تقويم الواقع بهدف الاستبصار به، ومعرفة الإيجابيات والسلبيات التي تكتنفه وتؤثر فيه. وقد دأبت الأمم الحية، الساعية إلى النمو الحقيقي وليس الشكلي، إلى جعل مراجعة أمورها في جميع المجالات جزءا من ثقافتها العامة التي تمارس بأريحية وشفافية وتقبل للنتائج، دونما تذمر أو امتعاض، وإدراكا من الأفراد والمؤسسات أن نتائج التقويم تنتهي إلى نتائج إيجابية يلمسها الفرد، حيث يعدل في ممارساته وإدارته لعمله، وسلوكه عند التعامل مع الآخرين أيا كانوا.
المؤسسة بدورها تجد في نتائج التقويم نتائج جمة، فلو- على سبيل المثال- لدينا شركه تنتج بضاعة من البضائع لكن الشركة تتعرض لخسائر، فالمراجعة والتقويم ستكشف أسباب الخسارة عما إذا كانت إدارية، أو في ضعف الدعاية والتسويق للمنتج، أم أن الأمر مرتبط بجودة المنتج وعدم قدرته على منافسة منتجات الشركات الأخرى، أم سعره المبالغ فيه الذي لا يقدر عليه إلا قلة من الناس.
تأملت في موضوع المراجعة والتقويم وواقعه في مجتمعنا، وفي الوضع التنموي الذي نمر به، ولعله من المناسب العودة إلى الوراء قليلا إلى سنوات الطفرة الأولى، حيث زادت السيولة، نتيجة الطلب الكبير على النفط وارتفاع أسعاره، ما وفر سيولة مالية كبيرة لدى الحكومة ولدى كثير من الشرائح الاجتماعية، وهذا الواقع ترتبت عليه قوة شرائية دفعت التجار إلى زيادة الاستيراد لكل شيء، ومع ذلك تنفد البضائع بسرعة فائقة. نمط الاستهلاك الشديد تحول مع الوقت إلى ثقافة مضرة بالتنمية، وأقصد تنمية الإنسان في طريقة تفكيره، ونظرته للحياة، وسلوكه، وقدرته على التمييز بين النافع والضار والمهم وغير المهم، حتى إن البعض أثري ثراء فاحشا في تلك الفترة نتيجة أي نشاط يقوم به، أو نتيجة المساهمات العقارية، إلا أن غياب الوعي، وعدم إدراك قيمة المال، وغياب السلوك الاستهلاكي الرشيد أدى بالبعض إلى الإفلاس، والتحول من عالم الأغنياء إلى عالم الفقراء والمعوزين، وربما دخلوا السجن بفعل تصرفاتهم.
تنمية المواطن الصحيحة لا تتحقق بتوفير السيولة في يده فقط، رغم أهمية ذلك حتى لا يضطر للانحراف، بل في تعليمه كيف ينمي هذه الأموال، ويحافظ عليها لتتحول إلى مصدر إنتاج يضاف للناتج الوطني الذي يقوي ويعزز الاقتصاد، وتنمية التفكير بصورة شمولية، لا تقتصر على المنفعة الذاتية، ذات الطابع الأناني، هي الأساس الذي على ضوئه يدرك الفرد أهمية الموارد، وأهمية المحافظة عليها كموارد المياه، والطاقة. في غمرة الطفرة الأولى التي نزلت على عموم الناس فجأة أفقدت البعض الحكمة والصواب، بل إن المجتمع بأكمله أفرادا، ومؤسسات لم يرد في وعيهم أن ما توافر في أيديهم قد لا يلبث طويلا، وهذا ما حدث بالفعل، إذ تبخرت الثروة دون أن نحقق التنمية الحقيقية، ونوفر البنى التحتية في جميع أشكالها، وجودتها، فلا تزال مدننا يفتقد بعض أحيائها الصرف الصحي، وتصريف السيول، وشبكة المياه، والخدمات الصحية، والأبنية المدرسية المناسبة.
بناء منظومة القيم القائمة على ثوابت المجتمع لم تنل حقها من الاهتمام، فنظافة الحي، والشارع ليست جزءا من اهتمام الفرد، طالما يوجد رجل نظافة يقوم بالمهمة، كما أن دقة المواعيد، والمحافظة على الوقت ليست ضمن أجندة كثيرين، وقد يوصف من يحافظ على الوقت بأوصاف الجاد والمتزمت والدقيق وما إلى ذلك من الأوصاف التي تعطي انطباعا سيئا عن فرد كهذا.
الشفافية والوضوح في التعامل، وتجنب المواربة دون جرح لمشاعر الآخرين لم تلق العناية الكافية بها رغم قيمتها في الإدارة، ولذا نجد ممارسات إدارية خاطئة على جميع المستويات لأن الناس لم يتعودوا على الشفافية، بل ديدنهم المجاملة التي تبلغ حد النفاق، ولعل من أولويات الفترة المقبلة إذا ما أردنا لـ "برنامج التحول الوطني" و"رؤية 2030" النجاح الاهتمام بغرس الثقة لدى الناس، وتعويدهم على المكاشفة، والمصارحة في جميع الأمور، بدلا من أن يسير الناس بلا وعي أينما يتجهون.
الأنظمة التي سنت في فترة سابقه قد لا يكون من المناسب الاستمرار عليها، ومن المصلحة مراجعتها بوعي وانفتاح يأخذ في الاعتبار التغيرات المحلية، والدولية، وما جد في حياة الناس من أنماط الحياة، إضافة إلى التحولات التقنية الهائلة التي أسهمت في تشكيل سلوك الناس، وعاداتهم.
المراجعة الواعية لما طرأ على ثقافة المجتمع من تغيرات، خاصة ما له علاقة بالأسرة تستوجب العناية الفائقة بها، فتماسك المجتمع يتحقق بتماسك الأسرة، فهي البذرة الأولى في خيوط النسيج الاجتماعي القوي، فتفكك الأسرة يضعف التماسك الاجتماعي ويحدث الخلل فيه.