انتخابات فرنسا .. رحلة البحث عن رئيس مغمور
يبدو أن القدر أنصف الأمريكيين، حتى لا يكونوا حالة متفردة ضمن موسم الانتخابات التي تعيش على إيقاعه الدول الكبرى، في العالم منذ العام الماضي ويمتد على مدار هذه السنة. فما أن انتهت حلقات مسلسل من سيدخل البيض الأبيض بما لها وما عليها، حتى انتقلت إنفلوانزا المفاجآت، وحمى الغرائب والعجائز إلى بلاد الأنوار، وتحديدا شارع الشانزلزيه حيث يصطف المتبارون للظفر بكرسي الرئاسة في قصر الإليزيه.
يتأكد يوما بعد آخر أن المنجمين في بورصة الانتخابات، وقراء الفنجان في عالم السياسة، لن تسعفهم التكهنات والتخمينات هذه المرة، في معرفة اسم الشخصية التي ستنال لقب الرئيس الثامن للجمهورية الفرنسية في نسختها الخامسة، التي أقام أركانها الجنرال الراحل شارل ديجول سنة 1958.
لقد كان خبر إعلان الرئيس الحالي فرانسوا هولاند؛ زعيم الحزب الاشتراكي، عدم نيته الترشح لولاية رئاسية ثانية أوائل شهر ديسمبر المنصرم، كافيا لإشعال حرارة السباق بين زمرة من قادة الأحزاب ومعهم شخصيات سياسية فرنسية من اليمين واليسار والوسط، ممن يسارعون للحصول على موقع في لائحة الأسماء ذات الحظ لخوض غمار معركة دورة 23 نيسان (أبريل) 2017، قبل الحسم في دورة 07 أيار (مايو).
وكأننّا بالتاريخ يصر على تكرار السيناريو نفسه الذي عشنا على إيقاعه مع انتخابات الرئيس الـ 45 للولايات المتحدة. وهكذا بدأت تتهاوى تباعا شخصيات ثقيلة في عالم السياسية بفرنسا، ممن منحها المختصون والراسخون في شؤون البلاد النصيب الأوفر لبلوغ سدة الرئاسة.
نجد في مقدمة تلك الأسماء - من كان خروجه مفاجأة كبيرة- الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي سقط في الانتخابات التمهيدية لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية. وهو المصير ذاته الذي لقيه ألان جوبيه؛ الذراع الأيمن للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك أمام فرانسوا فيون. هذا الأخير الذي حرمته الفضائح -التي يعيش هذه الأيام على وقعها- فرحة الإطاحة برموز اليمين الفرنسي المعتدل، زيادة على أنها؛ أي الفضائح، أفضت إلى بث التفرقة في صفوف اليمينيين، والشك والريبة لدرجة أضحت معها أصوات جزء من الفرنسيين أقرب إلى اليمين المتطرف منه إلى يمين الوسط.
ليس هذا فحسب ما يحدث هناك، إذ تعدت متغيرات المشهد السياسي الفرنسي مجرد الانقلاب على الزعامات، إلى مسألة ترشيح أشخاص ممن لهم توجهات وقناعات ملتبسة، غالبا ما لا تتوافق في عديد من الجوانب مع المؤسسة الحزبية التي ينتمون إليها. كما هو الحال مع المرشح لقيادة الحزب الاشتراكي في هذه الانتخابات إمانويل فالس، الذي قد لا نبالغ عند وصفه باشتراكي في ثوب اليمين.
واضح أن ما يقع في باريس أشبه بما حدث في واشنطن مع تسجيل اختلاف نوعي في بعض التفاصيل المرتبطة أساسا بتاريخ كل بلد على حدة. فالأصل أن المؤسسة الحزبية في فرنسا، وعكس ما الأعراف الجاري بها العمل في أمريكا، تستند بالدرجة الأولى إلى الأساس الأيديولوجي، ما يفيد أن الوفاء التنظيمي والتاريخي النضالي محددان جوهريان للترقي داخل هياكل وأجهزة أي حزب في فرنسا.
لكن تطورات ومسار الوقائع التي تتوارد من بلاد نابليون بونابرت، تعلن عن نهاية هذه الحقبة الطويلة، أو على الأقل اعتماد مبدأ التخفيف من منسوب الأيديولوجيا والوفاء التنظيمي الصلب لمصلحة البراغماتية السياسية في الأجندات الحزبية.
ما يفيد أن المؤسسة الحزبية في فرنسا تتجه نحو أسلوب النادي السياسي؛ على غرار الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أمريكا، الذي يمكن لأي مواطن أمريكي أن ينخرط في أحد الحزبين ولو قبل فترة قصيرة نسبيا من الانتخابات، ويصبح مرشحه لأعلى المناصب ومنها منصب الرئاسة، إذا توافرت فيه القدرة على إقناع منخرطي الحزب، ونجح في حشد المبالغ المالية الضخمة لتحقيق ذلك.
النظر إلى ما يجري في فرنسا، يكشف في جانب آخر أزمة النخب السياسية؛ في سابقة من نوعها في بلاد كان على الدوام ملجأ وملاذا للنخب من كل أقطار العالم. فالملاحظ أن الخطاب والمواقف ولا حتى الأفعال لم تعد مقنعة للجمهور، بعدما تمكن من كشف أقنعتها. فأن يسقط شخص من حجم ساركوزي كان في فترته الرئاسية ينافس المرأة الحديدية بألمانيا على كاريزما زعامة الاتحاد أمر مريب. وكذلك الحال مع ألان جوبية واحد من أبرز ممثلي التيار الديجولي –نسبة إلى شارل ديجول- في الساحة السياسية الفرنسية في الدور التمهيدي الأول، يعلن أن زلزالا كبيرا على وشك الحدوث في عالم السياسة الفرنسية، وما نراه حاليا سوى إرهاصاته الأولى.
بمعية هذه التحولات المتسارعة التي تهز الداخل الفرنسي هزا، تتزايد مشروعية نقاش اكتفى أصحابه بالبقاء في الهامش ردحا من الزمن. إنه ضرورة إصلاح المؤسسات، ومراجعة طبيعة الحكم في بلاد الأنوار، ما جعل دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958 في مرمى سهام النقد. ومما يعاب على نظام الجمهورية الحالي، تلك الآثار السلبية لاقتسام السلطة التنفيذية بين الرئيس والحكومة، خصوصا في العلاقة مع فكرة المسؤولية السياسية، ما شجع رموزا من أطياف سياسية مختلفة على بناء أطروحة متكاملة تدعو فيها إلى "الجمهورية السادسة".