الهوية الطائفية .. شيعة عرب يدفعون الثمن و«سليماني» يجني الثمر

الهوية الطائفية .. شيعة عرب يدفعون الثمن و«سليماني» يجني الثمر

لم يعد يخفى على أحد أن العلاقات بين «حزب الله» ومقاتلي النظام السوري قد أصبحت متدهورة. فوسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية التابعة لمؤيدي «حزب الله» من الشيعة تزخر بعبارات السخرية من عدم كفاءة الجيش السوري وفساده وحماقته وجبنه ونقص موارده. وغالبا ما تُتّهم قوات الأسد بأنها السبب وراء الخسائر التي يتكبّدها «حزب الله» أو عرقلة العمليات ضد المتمردين. وفي حين أعطى هذا الاتجاه على ما يبدو زخما لا بأس به لأبرز مؤيدي «الحزب» في الوطن الأم، إلا أنه يشير أيضا إلى أن التحالفات السياسية والعسكرية ستكون أكثر تعقيدا على الأرض في سورية.
ووفقا لتقرير أعدته حنين غدار، الصحافية والباحثة اللبنانية، ونشره معهد واشنطن للدراسات، فإن العلاقات بين مقاتلي «حزب الله» وقادتهم في «الحرس الثوري» الإيراني رغم وصفها بالعلاقات المعقدة، إلا أنها أكثر إشكالية من أن تناقش علنا. ولا يزال «حزب الله» أكثر ميليشيات إيران كفاءة، فيما بعض التقارير تشير إلى أنه قد يفقد مكانته المميزة لدى طهران، على الأقل من حيث كيفية التعامل مع قواته على أرض المعركة. فلقد كشفت الحرب في سورية نوايا إيران التوسعية الحقيقية، إلى جانب غطرسة فارسية في التعامل مع الشيعة العرب لم يألفها مقاتلو «حزب الله».
وللاطلاع من كثب على نظرة «الحزب» لهذه الديناميكيات، يستند هذا المقال على مقابلات أجرتها الكاتبة مع عدد كبير من مقاتلي «حزب الله» وقادته. وعلى الرغم من أنه يتعذر علينا معرفة إلى أي قدر تمثل وجهات النظر هذه آراء «الحزب» بصورة عامة، إلا أن درجة موافقتهم على قضايا معينة هي أكبر دليل على ذلك. وعلى وجه الخصوص، أنهم يميلون إلى إلقاء اللوم على قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» قاسم سليماني وتحميله مسؤولية تدهور العلاقات بين الجانبين.

قبضة سليماني
بعد إرسال سليماني إلى سورية في الأيام الأولى من الحرب، سرعان ما تغيرت الديناميكية بين «حزب الله» وإيران. فقد عمل قادة «الحزب» تحت إشراف «الحرس الثوري» الإيراني لمدة سنوات، ولكن يقال أن سليماني بدأ يتدخل في التفاصيل الإدارية لعملياتهم العسكرية إلى درجة لم يسبق لها مثيل.
وإضافة إلى إحكام سليماني قبضته على الميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية الموحدة التي تحارب في سورية، سلّط هذا التغيير الضوء على العلاقات المعقدة بين الشيعة الفرس والعرب. وأدت الدعوات المتكررة للتركيز على الهوية الطائفية إلى توحيد كل الميليشيات الشيعية التي تقاتل تحت راية «الحرس الثوري» الإيراني خلال الحرب، ولكن منذ ذلك الحين أصبح هذا الاتحاد يواجه تحديات يتمثل بالتوترات عميقة الجذور بين الفرس والعرب. فمن قاتلوا في ظل قيادة سليماني، يميلون إلى التحدث عن هذا التوتر، فقد أخبر أحد مقاتلي «حزب الله» كاتبة هذه السطور في كانون الأول (ديسمبر): "لقد كان واضحا لكثيرين منّا أن سليماني يولي الأولوية لحماية الإيرانيين، وأنه قد يضحي بمقاتلي حزب الله وجميع الشيعة غير الإيرانيين".
وبالمثل، اشتكى عدد من المقاتلين الآخرين من أن حلفاءهم الإيرانيين والعراقيين الشيعة قد تخلوا عنهم في ساحة المعركة. ويبدو أن مثل هذه الحوادث قد أدّت إلى وقوع خسائر كثيرة في صفوف «حزب الله»، ما دفع ببعض المقاتلين إلى رفض القتال تحت إشراف قياديين إيرانيين. وعلى نحو مماثل، اشتكى عديد ممن أجريت معهم مقابلات من "القسوة" و"الغطرسة" التي يعامل بها الإيرانيون المقاتلين العرب. فقد علّق أحد المقاتلين على هذا الموضوع قائلا: "أشعر أحيانا أنني أقاتل إلى جانب غرباء لن يكترثوا إذا متّ... علينا أن نسأل أنفسنا لم تعذّر علينا تحقيق أي هدف في سورية، على الرغم من أننا نمتلك أسلحة متطورة في حين تمكن من سبقنا من مقاتلي «حزب الله» من تحقيق الكثير باستعمالهم كمية أكبر من الأسلحة التقليدية. نحن نقاتل في المكان الخاطىء".
ويبدو أنه لا يوجد لدى سليماني قدر كبير من التسامح تجاه مثل هذه الانتقادات. فقد جاء على لسان قيادي أنه: "عندما ازدادت الشكاوى وأوقفت قيادة «حزب الله» تنفيذ مطالب سليماني الرامية إلى إرسال المزيد من المقاتلين إلى حلب، قطع سليماني الرواتب لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن لبّى «حزب الله» طلبه." وبينما عبّر معظم من أَجريتُ معهم هذه المقابلة بأنهم يكرهونه، إضافة إلى إزدرائه الواضح من العرب، إلا أنهم يحترمونه ويخشون منه، على أساس أن علاقتهم به أصبحت أشبه بعلاقة موظف برب عمله أكثر مما هي شراكة بين فريقين. ونتيجة لذلك، أصبح عديد من المقاتلين المخضرمين يعتقدون أن مفهوم "وحدة الهوية الشيعية" هو خيال، وأنهم سيعودون إلى بلادهم كعرب لبنانيين خائبي الأمل أكثر من كونهم مقاتلين منتصرين يمثلون عموم الشيعة.
أكذوبة المقاومة
على الرغم من أن قيادة «حزب الله» قد سعت إلى ربط الحرب في سورية بأهداف أسمى، كموقفها الراسخ المتمثل بـ "المقاومة" ضد إسرائيل، والدعوة الأكثر حداثة لهزيمة الجماعات التكفيرية الإسلامية السنية كتنظيم «داعش»، إلا أن عديدا من المقاتلين لا يزالون غير مقتنعين بذلك. فهم متشائمون حيال هذا الأمر لأن معظم معاركهم كانت تستهدف دعم نظام الأسد وليس محاربة التنظيم. كما يعتقد كثير من المقاتلين أنهم يدفعون جميع التكاليف بينما يجني الإيرانيون الثمار. ونتيجة لذلك، تنسحب أعداد كبيرة من المقاتلين المخضرمين من صفوف «حزب الله»، ما يفسح المجال أمام انضمام مجموعة جديدة ومختلفة من المقاتلين الشباب.
ووفقا لبعض عناصر «حزب الله» الذين أخذوا «إجازة» من القتال في الحرب أو تركوا المشاركة فيها بصورة تامة، لا ينخرط المنضمون الجدد في الحرب لأسباب أيديولوجية أو لتحقيق الذات. فوجودهم هو للحصول على راتب أو لتأمين مستقبلهم - وهم ليسوا معنيين بشكل خاص بالمهمة الأوسع لـ «حزب الله»، ويميلون إلى اتباع الأوامر الإيرانية من دون تذمر.
ولكن وفي الوقت نفسه، يبدو أن المنتسبين الجدد أقل وفاء من أسلافهم، وليسوا على القدر نفسه من الجاهزية والتدريب. ووفقا للتقارير الإعلامية اللبنانية لا يخضع المقاتلون الجدد للتدريب لأكثر من شهر أو شهرين قبل أن يتم زجهم مباشرة في المعركة. وسابقا، كان «حزب الله» يقضي عقودا من الزمن في غربلة مقاتليه وإعدادهم، وكانت قيادة «الحزب» تنتقي نخبة الشباب الشيعة للانضمام إلى صفوفها لأنها كانت تبحث عن رجال أوفياء وجديرين بالثقة. أما اليوم، فإن جيش «حزب الله» في سورية مملوء بمقاتلين شباب لا يمكن الاعتماد عليهم ولا يتحلّون بالأخلاق المطلوبة.

"خسائر" لبنان
تنعكس التغييرات في القوة القتالية لـ «حزب الله» بشكل خطير على المجتمع الشيعي في الوطن الأم. ونظرا لعدم شعبية هذه الحرب بصورة عامة وآثارها الاقتصادية الحادة، فقد أصبح اللبنانيون الشيعة أكثر عزلة. وهم يواجهون صعوبة أيضا في التعامل مع المقاتلين العائدين إلى الوطن الذين غالبا ما يكون لهم أثر سلبي في بلداتهم، إما عبر سلوكهم العنيف، أو محاولتهم فرض أنماط الحياة المحلية، أو عبر إثارة الفوضى بشكل عام. وتُظهر الإحصاءات الحكومية معدلات مرتفعة جدا من تعاطي المخدرات وارتكاب الجرائم الصغيرة والبطالة أكثر من أي وقت مضى، وخاصة في معقل «حزب الله» في الضاحية الجنوبية من بيروت "الضاحية". وحتى أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو غياب تدابير جدية لمواجهة هذه المشكلات الاجتماعية. ولا يسمح للسلطات اللبنانية بعمل أي شيء في "الضاحية" دون تعاون «حزب الله»، إلا أنه يبدو أن «الحزب» لم يبذل جهدا كبيرا لمعالجة هذه المشكلات. وباختصار، ففي حين أن عديدا من الشيعة ما زالوا يعتبرون أن «حزب الله» هو ملجأهم وراعيهم الوحيد، إلا أنهم لم يلتمسوا هذه الرعاية والحماية منذ وقت ليس بالقليل. ولن يتمكن «حزب الله» من تحمل هذه الضربات التي تشوه سمعته لوقت طويل، إلا أنه يبدو أن إيران وسليماني غير منزعجين من الوضع الراهن، بل يعتبران أن هذه المشكلة تخص «حزب الله» دون غيره. وكلما يغادر محاربو «الحزب» سورية، يتم استبدالهم على الفور بعراقيين شيعة ليس لديهم الشواغل المحلية نفسها المتعلقة بالحفاظ على "المقاومة" ضد إسرائيل. إن واقع اختلاف طهران و«حزب الله» في الأولويات والأساليب أحيانا لم يعد بالأمر المفاجئ؛ فمن بين الحالات السابقة الأخرى، كان القادة الإيرانيون أقل من أن يكونوا متحمسين لقرار «حزب الله» بشن حرب مع إسرائيل في عام 2006. وبالمثل، فإن مقاتلي «حزب الله» ليسوا بالوكلاء الوحيدين الذين أثارت غضبهم الغطرسة الإيرانية؛ فعلى سبيل المثال، يقال إن المقاتلين العراقيين المعتقلين الذين استجوبتهم السلطات الأمريكية انتقدوا مدربيهم ومستشاريهم الإيرانيين المتغطرسين. إلا أن حلفاء إيران العراقيين يواصلون القتال في سورية حتى في ظل ازدياد انسحاب مقاتلي «حزب الله» المتمرسين من المعركة، لذلك لا يجب التقليل من شأن التوترات الحالية.
وتختم غدار الزميلة الزائرة في مركز "فريدمان" أن هناك عدة عوامل قد تساعد على تفسير هذه الظاهرة، كالتغير الكبير في خطاب «حزب الله» من "مقاومة إسرائيل" والتصدي لها إلى "محاربة السنة"، والنقص المتفاقم في الخدمات الاجتماعية في لبنان، والفشل في تحقيق وعد "النصر الإلهي"، و"غطرسة" من يفترض أن يكونوا شركاء «الحزب» الإيرانيين. وفي كل الأحوال، فقدَ «حزب الله» بعضا من "القدسية" التي كان يحظى بها في لبنان، فلم يعد عديد من الشيعة الذين يبحثون عن هوية وخطاب مغاير أو عن طريقة عيش مختلفة يعتبرون «الحزب» مجديا.

الأكثر قراءة