محكمة لتنازع الاختصاص وتفسير الأنظمة حاجة ضرورية
سبق أن كتبت عدة مرات عن الحاجة الماسة لتأسيس محكمة مستقلة تتمتع بمزايا خاصة لتختص بالفصل في الاختلاف بين الجهات الحكومية في تفسير نظام ما، وكذلك التنازع القضائي في الاختصاص، حيث مع الأسف لا توجد جهة قضائية مستقلة تفصل في مثل هذه القضايا لدينا، وفي نظري أن البلد مع هذه الثورة الإصلاحية في سن التشريعات النظامية يحتاج إلى أن تكون لديه جهة مختصة للفصل في هذا النوع من القضايا، سواء في تنازع الاختصاص أو الصلاحية بين الجهات الحكومية أو بين تنازع المحاكم، أو حتى في تفسير الأنظمة ومدى توافقها أو معارضتها مع لوائح الأنظمة، التي تضعها الوزارات والجهات الحكومية.
هناك ما يسمى بالمحاكم الدستورية في كثير من دول العالم، خاصة الدول التي تنهج منهج القانون اللاتيني. وهي موجودة أيضا في الدول التي تأخذ بمنهج القانون الإنجلوساكسوني ولكن تحت مسمى آخر وهي المحكمة الأعلى The Supreme Court، ففي أمريكا هناك ما يسمىThe Supreme Court of the United States التي تأسست في عام 1789، وكان من أهم اختصاصاتها؛ الفصل في تنازع قوانين الولايات مع القانون الفيدرالي وما شابه ذلك.
أما في بريطانيا؛ وهي رائدة القانون الإنجلوساكسوني، فلم يتم تأسيس المحكمة الأعلى (ربما هذه أنسب ترجمة لها حيث يوجد محكمة عليا أخرى ولها اختصاصات مختلفة أقل رتبة) إلا في عام 2005 مع صدور قانون تحديث الدستور The Constitutional Reform Act 2005 وبدأت عملها في 2009، وهي بالمناسبة؛ إحدى صور تحول القانون الإنجليزي التدريجي إلى الدسترة والتقنين إن صح التعبير. وربما مثال بريطانيا أنسب مثال لنا؛ حيث لا تتمتع المحكمة الأعلى هناك بصلاحية نقض أو إلغاء القوانين، وإنما فقط تعلن عدم توافق القانون مع غيره مثلا declaration of incompatibility، وبالتالي يقوم البرلمان بدراسة الموضوع ومعالجته. أعود لوضعنا نحن؛ حيث هناك ما يسمى بـ "لجنة الفصل في تنازع الاختصاص"، وهي لجنة تابعة للمجلس الأعلى للقضاء، نص عليها نظام القضاء في المادة 27، وهي تفصل في تنازع الاختصاص بين كل من القضاء العام والقضاء الإداري واللجان شبه القضائية، إلا أنها في الوقت نفسه تابعة لجهة هي من بين تلك الجهات التي تتنازع الاختصاص أحيانا، والأولى أن تكون تلك اللجنة في رتبة محكمة مستقلة ومرتبطة بالملك شخصيا، مع توسيع صلاحياتها وتطويرها لتنظر في قضايا أخرى سأشير إليها ومدى الحاجة إليها هنا. كما أن نظام القضاء لم يحدد آلية الترافع أمامها بشكل مفصل، كما إنها تحتاج إلى وجود تخصص منوع بين الشرعي والقانوني المتخصص.
تحصل أحيانا أخطاء في تفسير بعض الأنظمة من قبل الجهات الحكومية، من خلال اللوائح التنفيذية التي تضعها تلك الجهات نفسها، وفي هذه الحالة؛ فإن البلد يحتاج إلى جهة تجمع التأهيل والخبرة التراكمية في مثل هذه القضايا لتكون هي المرجع الذي يفصل في التفسير، ويكون من اختصاصها مراجعة اللوائح، والقرارات الوزارية ذات الشأن التشريعي، ومدى توافقها أو تعارضها مع نصوص الأوامر الملكية والأنظمة، ما يساعد حتى الجهات الحكومية على أداء عملها بشكل مركز، ويحفظ للناس حقوقها، إضافة إلى الفصل في الخلاف بعدم نظامية لائحة أو أوامر وزارية ذات صفة تشريعية "وذلك في غير القضايا التي تكون أمام المحاكم" وهكذا.