تقنين الأحكام ضرورة لتطوير القضاء

معرفة الناس للقانون الواجب التطبيق هي أساس الدولة المدنية في العالم الحديث، ولا يمكن للقضاء أن يُراكم خبرته إلا باعتماد الأساليب الحديثة في استقرار الأحكام القضائية ومنها التقنين والإلزام بالسوابق القضائية.
تحدثت في المقال السابق عن جانب من التقنين واليوم سأتناول جانبا آخر، وهو البعد الشرعي لمن رأى منع التقنين، فالحقيقة أن منع تقنين الشريعة حَرَم البلد ما يُسمى بالتطوّر التراكمي في مجال التشريع النظامي “القانوني” في رأيي، فمن المعلوم أن القانون يعتبر عصارة الحضارة الإنسانية، التي تنمو مع الوقت والزمن بشكل تراكمي، إلا أننا مع الأسف نعتبر جامدين في المكان نفسه، كون القانون لدينا يعتمد على الشخص اعتمادا شبه كلي، فكل قاض يجتهد ويبحث بنفسه ويتطور فكره تدريجيا، إلى أن يكبر ويخرج من الجهاز، وهكذا يأتي من بعده، ويبدأ بالقصة نفسها، بخلاف الأمم الأخرى التي يتطور القانون لديها بشكل تراكمي (من خلال التقنين والسوابق)، فقضاتهم يعتمدون على معرفة وجهود من سبقوهم بالخبرة والمعرفة من قضاة الأمس ويراكمون عليها وهكذا.
وبالتأمل بعمق في فتوى منع التقنين؛ نجد أنها متناقضة في أصلها، ولو التزمنا بهذه الفتوى وباطراد في استدلالاتها لكان من المستحيل أن يقوم القضاء بشيء! وسأذكر عديدا من الأمثلة لأجل إيضاح الفكرة.
هناك كثير من الفتاوى التي في حقيقتها تقنين، وكيف للحاكم أن يلزم الناس بشيء فيه خلاف بين الفقهاء إلا من خلال التقنين! وهذا بالاتفاق اليوم أنه من حق ولي الأمر أن يلزم الناس برأيه الذي يختاره فيما يهم الشأن العام، طالما كان هناك خلاف بين العلماء، وإلا لما استقامت الحياة حتى لو كان الشخص المُلزَم هنا لا يرى الرأي نفسه! هذه الصورة المبسطة في النظرية السياسية في الإسلام قديما هي انعكاس لضرورة الإلزام الآن برأي الدولة من خلال المؤسسات الحديثة للناس، وكما يُباح للحاكم ذلك، بلا تعارض للآية (فاحكم بين الناس بما أراك الله)، فمثل أن الحاكم المسلم يحكم برؤيته ولا تعتبر متعارضة مع الآية، فإن الدولة/ ولي الأمر اليوم يقوم بالدور نفسه.
لنأخذ مثالا آخر من آراء الفقهاء قديما؛ فإلزام الناس بفتوى أهل البلد كما يعبّر الفقهاء دائما هو جزء من مبدأ التقنين، فبأي حق تلزم من يرى عدم شرعية قنوت الفجر في بلد الشافعية بالقنوت أو عكسه؟ حتى الحنابلة يعدّون القراءة بغير رواية أهل البلد من المكروهات في الصلاة! وكذا إلزام الناس بالفتوى التي ترى حرمة قيادة المرأة، وفتوى تقدير الدية وقتل مهرب المخدرات، وفتوى تحديد الأوقات التي تكون بين الأذان والإقامة وإلزام الناس بها، وأي إلزام للناس في أي مسألة اجتهادية وهكذا. كل هذه الآراء مبنية على استعمال التقنين واختيار رأي من الآراء وإلزام الناس به، الأمر الذي يدخل ضمن المحاذير التي يمنع المعارضون التقنين من أجلها!
الخلاصة؛ أننا منعنا أنفسنا من أفضل منتجات الحضارة بشبهة غير صحيحة، وغير قابلة للتطبيق ولا الاستمرار، الأمر الذي تسبب في إشكال كبير أمام تطوير القضاء وتحديثه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي