الثقافة في مواجهة الاستراتيجيات
أحد مديري المستشفيات في بلادنا يرى أن الثقافة التنظيمية للموظفين من أعلى السلم الوظيفي إلى أدناه مرورا بأوسطه، تشكل العائق الرئيس لتطبيق الاستراتيجيات، كما أنها تشكل الدافع الرئيس لتطبيقها وتحقيق أهدافها، والأمر يتوقف على مدى توافق ثقافة الموظفين مع ثقافة المنظمة، وبالتالي فإنه يرى أن استقطاب موظفين تتوافق ثقافتهم لجهة القيم والمفاهيم والاتجاهات والمواقف مع ثقافة المستشفى التي اعتمدت لتحقيق الاستراتيجية، إضافة إلى معالجة الفجوة الثقافية للموظفين الواعدين بين ثقافة المنظمة وثقافتهم الشخصية من أهم واجباته كمدير للمستشفى مسؤول عن نجاح أو فشل الاستراتيجية.
ويرى هذا المدير أن المريض عادة ما يأتي بمرض ويخرج بعدة أمراض نتيجة ما يلاقيه من مشاكل تبدأ من مواقف السيارات، وتنتهي بالصيدلية التي تتأخر في تسليمه الأدوية المقررة لعلاجه، ويرى أن مهمة الاستراتيجية يجب أن تتمحور حول المريض ليأتي بمرض ويغادر بإذن الله بالعلاج اللازم لهذا المرض، أو يغادر وهو قد شفي تماما بعد أن أجريت له العملية اللازمة إذا كان المرض يستدعي ذلك. يستثنى من ذلك بطبيعة الحال الحالات المزمنة التي كتب الله عليها الموت بسبب شدة أو تفاقم المرض.
ولذلك فإن هذا المدير كما سمعت فإنه يقوم بمقابلة المرشحين للمناصب القيادية ومناصب الإدارة الوسطى ليتأكد من توافق ثقافتهم الشخصية مع ثقافة المستشفى المقرة في الاستراتيجية خصوصا لجهة الموقف من المرضى والقيم والمفاهيم والمبادئ التي يحملونها ويتمثلونها قولا وعملا، وكذلك يشرف بنفسه على إعداد البرامج التدريبية لترسيخ الثقافة التنظيمية، ولذلك فإن المستشفى الذي يديره يحقق أعلى درجات الكفاءة في الأداء ويحقق أهدافه الاستراتيجية بشكل تراكمي بمرور الوقت.
تذكرت قصة مدير المستشفى هذا عندما اطلعت على مقالة في إحدى الصحف المهتمة باستراتيجيات المنظمة وأسباب نجاحها وفشلها، حيث يقول الكاتب إنه عادة ما تتم مراجعة الاستراتيجية عند الفشل في تحقيق أهدافها ليتم تعديلها، رغم أن الحقيقة تبين أن معظم أسباب فشل الاستراتيجيات ليست بسبب ضعف جودة الاستراتيجية بقدر ما هي بسبب الفجوة السلبية بين ثقافة الموظفين، وجمهور المنظمة الخارجي، وثقافة المنظمة المنصوص عليها في قيم الاستراتيجية ومفاهيمها، وبالتالي فإن ثقافة الموظفين، وثقافة جمهور المنظمة الخارجي تقفان كعوائق في وجه تحقيق الاستراتيجيات، ولو تمت دراسة الفجوة الثقافية ووضعت برامج علاجية لسدها لتحققت الاستراتيجية دون أن تغير أهدافها أو برامجها أو مشاريعها أو آلياتها.
ولو أدركنا مفهوم "الثقافة في مواجهة الاستراتيجيات" لفتحنا لأنفسنا آفاقاُ واسعة للتفكير بالدوافع ومحفزات تطبيق الاستراتيجيات وعوائقها، وتحليلها وتشخيصها، ومن ثم التفكير بالحلول العلاجية الناجعة وتقييمها حتى الوصول لأفضل ثقافة تنظيمية مدعومة بثقافة مجتمعية يمكن أن تنقلنا لمفهوم "الثقافة في دعم الاستراتيجيات" بدلا من مواجهتها.
والآفاق الواسعة التي يجب أن نفكر في أطرها كما يبدو لي يجب أن تشمل ثقافة كل الشرائح ذات الصلة بالاستراتيجية ومنها ثقافة الشريحة الداخلية وهم الموظفون الذين يشكلون القوة الدافعة لعربة الاستراتيجية، ومنها الشرائح الخارجية التي تشمل الرأي العام وصناعتة، وكذلك ثقافة صناع القرار ومتخذيه وهؤلاء يُشكلون القوة المحفزة لتنفيذ الاستراتيجية بكفاءة عالية وتحقيق رؤيتها ورسالتها وأهدافها، وهم غالبا ما يشكلون القوة المعيقة كما يقول الواقع ذلك أنهم في الغالب لا يعون أو يجهلون منطلقات الاستراتيجيات وفلسفة رؤيتها ورسالتها وأهدافها وماهية وأهمية برامجها التنفيذية ومشاريعها وآلياتها، كما أن ثقافتهم غالبا لا تتفق وثقافة المنظمة صاحبة الاستراتيجية. في الغرب الرأسمالي عادة ما تكون الفجوة بين ثقافة المنظمات وثقافة موظفيها وشرائحها الخارجية محدودة ذلك أن الثقافة العامة نشأت وتشكلت في بيئة رأسمالية حيث يعمل التعليم، والإعلام، ودور النشر، والسينما، ومراكز الأبحاث، والجامعات وغيرها من وسائل بناء وصيانة الثقافة في ترسيخ المعارف، والقيم، والمفاهيم التي تدعم الإنتاجية، والكفاءة، والتطوير، وتقبل الجديد بمرونة عالية وبأقل درجات المقاومة، كما ترسخ مفهوم المصلحة العامة كسبيل أمثل لتحقيق المصالح الشخصية، وبالتالي فإن المنظمات الغربية لا تعاني مقاومة الثقافة للاستراتيجيات كما هو الحال لدينا، حيث إن منطلقات عناصر منظومة بناء الثقافة لدينا مختلفة النشأة ولا ينظمها ناظم، الأمر الذي أدى لفجوة كبيرة بين ثقافة المنظمات الداعمة لتحقيق الاستراتيجيات وثقافة الموظفين وأفراد المجتمع المواجهة للاستراتيجيات. وهذا يعني أن ردم الفجوة الثقافية لدينا ليس بالأمر الهين ويتطلب موازنات كبيرة لإعداد وتنفيذ خطط اتصالية احترافية على درجة عالية من المهنية على عدة مراحل تمتد لمدة متوسطة إلى طويلة الأمد، وهو أمر مهم وحيوي ولا يمكن تجاوزه وإلا فإن مصير معظم استراتيجيات المنظمات المحلية بما في ذلك استراتيجيات الأجهزة الحكومية الفشل أو النجاح الجزئي على مدى زمني طويل يتجاوز النطاقات الزمنية المستهدفة. ورغم أن ردم الفجوة الثقافية ليس بالأمر الهين إلا أنه بكل تأكيد ليس مستحيلا، وربما من حسن الحظ أن تعاظم دور الإعلام الاجتماعي سيسهل المهمة حيث إنه يمكن منظماتنا من الوصول لجميع الشرائح المستهدفة من خلال منصات تواصل اجتماعي معدودة على الأصابع وبتكاليف معقولة لتثقيف الشرائح المستهدفة على عدة مراحل تشمل رفع مستوى الاهتمام بالقضية أو المشكلة أولا، ثم تأطيرها لصناعة المعنى المراد للضخ الإعلامي التثقيفي ثانيا، وأخيرا الإقناع والترويج الدائم لرؤية ورسالة وأهداف وجدوى برامج ومشاريع وآليات الاستراتيجية بما يحقق المصلحة العامة ومصلحة الموظفين والشرائح المعنية بالاستراتيجية سواء كانوا الشرائح المستهدفة أو الشرائح الشريكة.
ختاما، ثقافة موظفي أي منظمة، وشرائحها المعنية بالاستراتيجية، وشركائها في تنفيذها حاسمة في نجاح استراتيجيتها أو فشلها، ولذلك فعلى كل المنظمات ذات الخطط والرؤى الاستراتيجية أن تعمل على بناء الثقافة الداعمة والمحفزة وألا تبخل أو تتقاعس في ذلك، وإلا فإن الثقافة السائدة ستواجه استراتيجيتها بشدة وتفشلها.