الأمن أم الديمقراطية؟ .. «ذئاب منفردة» تعيد السؤال إلى الواجهة

الأمن أم الديمقراطية؟ .. «ذئاب منفردة» تعيد السؤال إلى الواجهة

صار تحقيق التوازن بين توفير الأمن وضمان الحريات مهمة صعبة على عاتق صانعي السياسات في الدولة الحديثة، وتزداد صعوبته مع اندماج العالم الرقمي بقوة في تدابير الأمن اليومية؛ بعد تنامي ظواهر فرضتها تطورات النظام العالمي المعولم (الإرهاب مثلا). بتعبير أدق، نقول إن التحدي قائم على بسط إجراءات تمكن من التصدي لمخاطر الإرهاب المتنامية، دون أن تخسر الديمقراطية روحها، وتفقد جوهر قيم حقوق الإنسان تحت ضغط هذه التدابير والإجراءات.
لقد فرضت ظاهرة "الذئاب المنفردة" التي تظهر بين الفينة والأخرى، في هذا البلد الأوروبي أو ذاك، على هذه الدول مراجعة سياساتها حيال استمرار مسلسل انبثاق التفجيرات والاعتداءات من قلب المجتمعات الغربية، من شباب شبُّوا وترعرعوا على المبادئ والقيم الأوروبية.
مراجعة تجعل القوة المعيارية لحقوق الإنسان، التي لا غنى عنها في الساحة السياسية كمعيار للسيادة، وتعد بمنزلة دينامية تمنح الشرعية لسلوك الدولة، محل نظر ومراجعة وتصويب. ففي ظل ارتفاع الهجمات الارهابية التي يخوضها الوكلاء المحليين لتنظيمات المتطرفة، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام إشكال حقيقي، يفرض قلب القاعدة لتصير استثناء في مجال الحريات قصد مكافحة التطرف.
على هذا الأساس خاطرت العديد من البلدان ولا تزال، بإضعاف وضع الحقوق والحريات الأساسية، لدرجة بلغت إعلان حالة الطوارئ، ورفع درجات التأهب إلى مستويات قياسية. ما توَلد عنه نقاش محتدم من جانب أنصار الحرية، ممن يتخوفون مما سيرتبه ذلك من آثار في المدى البعيد على المناخ الديمقراطي.
احتدم النقاش بين أنصار ومعارضي السياسات العمومية المرتبطة بالنشاط الاستخباراتي والتحري الاستباقي، ولا سيما المفارقة القائمة بين سياسة عمومية تحوطها السرية، وتطبعها في كثير من الأحيان اللامشروعية من جهة، والنظام الديمقراطي القائم على الشفافية وسمو القانون من جهة أخرى.
يتمثل جوهر هذا النقاش في إشكال مركزي يتعلق بضرورة حسبان الكيفية والشروط التي يمكن بها لهذا القطاع من السياسات العامة، وهو قطاع متغلغل عميقا في ثقافة السرية والانتشار وخرق القانون، أن يندمج في النظام الديمقراطي؛ وفق شروطه المعروفة، المؤسس على الانتخابات والتداولات والنقد والشفافية، فضلا عن احترام الشرعية.
كما أن السؤال يطرح بخصوص التوازن بين ضرورتي الشرعية والفعالية في السياسات العمومية المتعلقة بهذا المجال، ففي الأول والأخير تبقى مكرسة بالأساس لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع. ناهيك عما يثيره هذا النوع من العمل من إشكاليات أخلاقية في الدول الديمقراطية تبقى بلا حل حتى الآن.
في المقابل يرى أنصار هذه المقاربة أن القواعد والمثل العليا التي ينشدها النظام الديمقراطي لا تصلح لمثل هذه الأوضاع، حيث الإرهاب العابر للحدود، المعقد في فعله والمتسع في انتشاره، والصعب في توقع ضرباته، أضحى أكبر التهديدات غير العسكرية المحدقة بالأمن القومي لدول.
ثمة ضرورة إذن لوضع نظم وطنية مضادة لتطرف قوامها تعزيز قدرات المجال الاستخباراتي، والتعاون الأمني الاستباقي، مع ما يستدعيه ذلك من ارتباط وثيق للفعل الاستخباراتي بسلوكيات الأفراد وهوياتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وتحركاتهم. على أن تبقى هذه النظم محافظة على الحريات العامة، وحريصة على المبادئ والقيم الديمقراطية.
تبقى هذه المقاربة صحيحة نظريا على الأقل، أما من الناحية العملية فهي أبعد ما تكون عن الواقعية، فالكل يعمل طرائق عمل الأجهزة الأمنية، والأدوار التي تناط بمؤسسات الاستخبار والاستعلام في الدول الحديثة، وقد تكون أحيانا "قدرة" ما يُبقي تساؤلا مركزيا حول شرعية وسائلها وأخلاقيتها في ضوء تورط الاستعلامات في الاختطافات والاعتقالات والإعدامات خارج إطار القانون.
مفارقة تولت الكاتبة إيبك ديميرسو كشف تفاصيلها المعقدة، في مؤلفها الصادر حديثا بعنوان "مكافحة الإرهاب وآفاق حقوق الإنسان"، من خلال سعيها إلى البحث عن مخارج تمكن من التصدي لمخاطر التطرف دون التفريط في روح الديمقراطية جراء التدابير الأمنية. أطرت المؤلفة مساعي بسؤال إشكالي مفاده: كيف يمكن لحكومات البلدان الموازنة بين ادعاءات التصدي للإرهاب والالتزامات المتعلقة بحقوق الإنسان؟
وخلصت في نهاية بحثها الذي اختار التجربتين البريطانية والتركية عينة للاشتغال، إلى أن السياسات الخاطئة، التي تستند إلى لغة الطوارئ والضرورة والاستثنائية، تؤدي إلى تداعيات غير متوقعة في المدى الطويل على السياسة التي تؤثر بدورها في المجتمع ككل.
فالإطار الأمني في مثل هذه السياقات عادة ما يكون مشبّعا بمفاهيم العدو في مقابل الضحية، والتحذير من التهديد المستمر والطوارئ، والتطرف بوصفه مظهرا للإرهاب الذي يعرض قيم الأمة الديمقراطية للخطر. في حين أن تأكيد إطار الحقوق يكون بحذر، وفي بيئة تضخم الأمن وتوسع سلطاته، وهي بيئة توفر كافة السبل لخنق الحقوق والحريات.
قديما قال بنجامان كونسطان أحد أعمدة الفكر الليبرالي في القرن التاسع عشر: «إن غاية القدماء كانت هي توزيع السلطة الاجتماعية بين المواطنين المنتمين لنفس الوطن، هذا ما كانوا يسمونه حرية. وغاية المحدثين هي الأمن في الانتفاعات الخاصة، إنهم يسمون الحريات تلك الضمانات التي تكفلها المؤسسات لهذه الانتفاعات». وقبله قال بنجامين فرانكلين أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية: «من يفرط في الحرية من أجل الأمن لا يستحق أيا منهما».
نختر هذه الأقوال الخالدة من إرث إنساني ضخم لتأكيد أنه، لا "الذئاب المنفردة" ولا "القطعان المحتشدة" بإمكانها النيل من إرادة مجتمع شرب قيم الحرية. وأن التضحية بحرية التعبير وحقوق الإنسان... وباقي مقومات النظام الديمقراطي لن تجلب أمنا ولا استقرارا، ولن تهزم إرهابا ولا تطرفا. بل إن الحقوق والحريات هي ما يجعل النظام السياسي ديمقراطيا ومشروعا، من خلال حماية المواطنين من تعسف السلطة باسم السيادة ودعوى الأمن. وقد أثبت التاريخ مرارا وتكرارا أنه بدون حقوق وحريات لا يمكن أن يكون هناك أمن.

الأكثر قراءة