دراسة: «عدم المساواة» المرفوض سياسيا مقبول اقتصاديا
في دراسة جديدة، يبيّن ثلاثة علماء من جامعة "ييل" أن ما يزعجنا في الحياة حقيقةً ليس عدم المساواة إنما الظلم.
إن أي شخص يبحث عن أدلة على أن لدى الناس نفوراً طبيعياً من عدم المساواة، سيجد عدداً هائلاً من الدراسات التجريبية التي يبدو أنها تؤيّد وجهة نظرهم. وقد توصّلت الدراسات إلى وجود "رغبة عالمية في تحقيق مزيد من المساواة في الأجور"، و"دوافع للمساواة بين البشر"، و"المساواة بين الأطفال الصغار"، كما وجدت أن "المساواة تتفوق على المعاملة بالمثل". كما أن بحثاً علمياً عبر "جوجل" عن "النفور من عدم المساواة" تنتج عنه عشرة آلاف دراسة تتناول هذا الموضوع.
وعندما طُلِب إلى الأشخاص موضوع البحث في الدراسات المخبرية أن يقوموا بتقسيم الموارد بين أفراد لا صلة لهم ببعض، كانوا يميلون إلى تقسيم تلك الموارد بالتساوي، وفي حال أدّت الحالة السابقة إلى عدم مساواة موجودة من قبل، سيقسّم أولئك الأشخاص الموارد المستقبلية بطرق غير متساوية بغية تصحيح عدم المساواة بين الآخرين أو ربما تقليلها، وهذا النوع من التحيّز قوي إلى درجة يفضّل عندها الأشخاص موضوع الدراسة الحصول على نتائج متساوية يحصل فيها كل فرد على إجمالي أقل مقارنة بالنتائج غير المتساوية التي يحصل فيها كل شخص على إجمالي أكبر.
علاوةً على ذلك، يبدو أن الناس ينظرون إلى التوزيع المتساوي للموارد على أنه مبدأ أخلاقي؛ ذلك أنهم يعبّرون عن الغضب تجاه أولئك الذين يستفيدون من التوزيع غير المتكافئ. وهذا الغضب قوي كفايةً كي يدفع الأشخاص موضوع البحث إلى دفع النقود لمعاقبة الموزعين الذين لا يعتمدون المساواة. وقد خلصت دراسة تناولت هذا الموضوع في 15 ثقافة متنوعة إلى أن الأفراد من أماكن مختلفة أظهروا نوعاً من الجاهزية لتولي عقاب الطرف الثالث المسؤول عن تقسيم غير عادل للموارد، على الرغم من أن حجم هذه العقوبة قد يتباين إلى حد كبير بين السكان.
«الرغبة في عدم المساواة»
بالنظر إلى هذه النتائج، قد يتوقّع المرء أنه في حال طُلِب إلى الناس أن يقوموا بتوزيع بعض الموارد بين مجموعة حقيقية من الأشخاص، فإنهم سيختارون توزيعاً عادلاً للموارد عبر جميع شرائح المجتمع، لكنهم لا يفعلون ذلك حقيقةً.
وقد حظيت دراسة حديثة أجراها "نورتون" و"إيرلي" باهتمام استحقته من وسائل الإعلام لأنها بيّنت أن الناس يقللون من شأن عدم المساواة في مجتمعنا، ويفضّلون أيضاً مجتمعاً أكثر مساواة من المجتمع الذي يعتقدون أنهم يعيشون فيه.
ويصف لنا واضعو هذه الدراسات أعمالهم على أنها "تدرس المستوى الأمثل لعدم المساواة في الثروات"، ويذكرون نتائج "مستوى مذهل من الإجماع: إذ ترغب جميع التركيبات السكانية، حتى أولئك الذين لا يرتبطون عادة بإعادة توزيع الثروات، كالجمهوريين والأثرياء، يرغب جميعهم في توزيع للثروة يكون أكثر عدلاً من الوضع الراهن". وقد حمل عنوان مقال كتبه إيرلي "الأمريكيون يريدون العيش في بلد أكثر مساواة (لكنهم لا يدركون ذلك فحسب)".
وهذه الملخّصات دقيقة: فالمشاركون في هذه الدراسات يفضّلون حقيقةً قدراً من المساواة أكبر من الوضع الحالي. لكن النتائج تشير أيضاً إلى أنهم لم يكونوا قلقين على وجه الخصوص إزاء التفاوتات الكبيرة، بل إن هؤلاء الأشخاص ادّعوا بدلاً من ذلك أنه في المجتمع المثالي يجب أن يحصل الأفراد الذين يشكّلون 20 في المائة من القمة على ثلاثة أضعاف الأموال التي يحصل عليها أولئك ممن يشكّلون 20 في المائة من أسفل الهرم.
وعندما كان لديهم خيار إجباري بين توزيع متساوٍ وآخر غير متساوٍ للثروة، وطُلِب إليهم أن يفترضوا أنهم قد يكونون عشوائياً أحد الأغنياء أو الفقراء (وهذا هو "ستار الجهل")، رفض أكثر من نصف المشاركين صراحةً خيار التوزيع العادل للثروة، مفضّلين عدم المساواة. وبذلك، تشير هذه المعطيات إلى أنه عندما يتعلق الأمر بتوزيع الثروة في العالم الحقيقي، يفضّل الناس قدراً معيناً من عدم المساواة.
ويتجلّى هذا التفضيل لعدم المساواة في 16 بلداً آخر، لدى أشخاص على طرفي الطيف السياسي الأيمن والأيسر، ولدى المراهقين كذلك. وكما يقول نورتون "يُظهر الناس رغبة في عدم المساواة؛ أي عدم المبالغة في المساواة، وعدم المبالغة في عدمها".
في الواقع، من الممكن لهذه البيانات أن تقلّل من تحبيذ الناس للتوزيعات غير المتكافئة، وتقارن دراسة أخرى بين تساؤل نورتون وإيرلي حول نسبة الثروة التي ينبغي أن تتوافق مع كل خمس من الشعب الأمريكي بتساؤل آخر حول معدل الثروة الذي يجب أن يكون موجوداً لدى كل خمس، وقد نجم عن التساؤل الأول نسبة مثالية من الأفقر إلى الأغنى بلغت نحو 1:4، أما بالنسبة إلى التساؤل الثاني، فقد قفزت النسبة إلى 1:50. وعندما فُسِّرت العلاقة بين التساؤلين للمشاركين في الدراسات، اختارت الغالبية منهم نسبة عدم المساواة الأعلى التي تعكس معتقداتهم الفعلية لكل من المقياسين.
تفضيل الإنصاف
كيف يمكن التوفيق بين هذا التفضيل لعدم المساواة في العالم الحقيقي مع التفضيل القوي للمساواة الذي وجدناه في الدراسات المخبرية؟ سنقترح أن هذا التباين ينشأ نتيجة عدم تقديم النتائج المخبرية أدلة على أن النفور من عدم المساواة يؤدي إلى تفضيل التوزيع المتساوي. بل إن هذه النتائج جميعاً بدلاً من ذلك تتوافق مع تفضيل المساواة والإنصاف، ذلك أن الدراسات معدّة ليكون الناتج المتكافئ ناتجاً منصفاً أيضاً.
وهذا يرجع إلى أنه ليس من الممكن التمييز بين المشاركين عن طريق بعض الاعتبارات مثل الحاجة والجدارة. ومن هنا، سواءً كان المشاركون حساسين تجاه الإنصاف أو المساواة، فإنهم سيميلون إلى توزيع السلع على قدم المساواة. ويؤيد هذه الفكرة عديد من الدراسات التي يتم التمييز فيها بين الإنصاف والمساواة بعناية، كما قد توصّلت هذه الدراسات إلى أن الناس يفضّلون الإنصاف على المساواة.
ولنأخذ مثالاَ لشخصين متطابقين في جميع الجوانب ذات الصلة بموضوع البحث، يأخذ أحدهما عشرة دولارات أمريكية بينما لا يأخذ الآخر شيئاً، وهذا غير متساوٍ بوضوح، لكن هل هو عادل؟ من الممكن أن يكون كذلك إذا كان التحديد عشوائياً، ويرى البالغون أنه من العدل اللجوء إلى إجراءات محايدة مثل تقلّب العملة واليانصيب لدى توزيع أنواع كثيرة مختلفة من المصادر.
وللأطفال أيضاً وجهة نظر مشابهة، ففي الدراسات المذكورة أعلاه والتي تحدثت عن توزيع المحايات مقابل تنظيف الغرفة، في حال أُعطي الأطفال "مغزلاً" ليختاروا عشوائياً الشخص الذي سيحصل على الممحاة الإضافية، سيكونون سعداء في إيجاد عدم المساواة. وقد يكون حصول أحد الصبيين على ممحاتين، والآخر على واحدة فقط، قد يكون عادلاً ومقبولاً تماماً، على الرغم من أنه غير متساوٍ بكل وضوح.
ويترتب على ذلك أنه في حال اعتقد شخص ما أن (أ) مجموعة من الناس في العالم الحقيقي يبدون تبايناً في الجهد والقدرة والاستحقاق الأخلاقي وما إلى ذلك، وأن (ب) هو نظام عادل يأخذ هذه الصفات بعين الاعتبار، عندها سيملي تفضيل الإنصاف على الفرد أن يفضّل نتائج غير متساوية في المجتمعات الفعلية.
ويستخدم توم تايلر نظرية ذات صلة ليفسّر السبب في عدم وجود درجة قوية من الغضب العام لمواجهة عدم المساواة الاقتصادية، ويبين أن الأمريكيين يرون أن نظام السوق الأمريكية إنما هو إجراء عادل لتخصيص الثروة، وبالتالي يؤمنون بشدة بإمكان التحوّل الاجتماعي، وبناء على وجهة النظر هذه، سيكون التنبؤ بسخط الناس من الوضع الاجتماعي الحالي عن طريق معتقداتهم حول عدم الإنصاف في تخصيص الثروة أفضل من الاعتماد على معتقداتهم حول عدم المساواة.
ما الذي يزعج الناس حقاً؟
كما هو الحال بالنسبة إلى معظم المطالب النفسية من هذا النوع، ينطوي اقتراحنا، في أفضل الأحوال، على تبعات غير مباشرة على السياسة العامة. وحتى إذا كان الفرد العادي يرغب في مجتمع غير متساوٍ، فقد يجادل أحدهم بأن الأفراد مخطئون فيما يريدونه. وربما يكون الأفراد أفضل حالا في مجتمع متساوٍ تماماً، لكنهم لا يعرفون ذلك بكل بساطة.
ومع ذلك، فإننا نرى بالفعل تأثيرين لهذا العمل.
- أولهما: يدل على أن عديدا من الناس يملكون معلومات خاطئة حول مدى توافق مجتمعهم مع مُثُلِهم، وبذلك يكونون مخطئين في تقدير مستوى عدم المساواة فيه، معتقدين أن الوضع الراهن أكثر مساواة مما هو عليه في الواقع، علاوةً على ذلك، لقد بالغ الأمريكيون في وجهة نظرهم حول مدى التحوّل الاجتماعي في الولايات المتحدة، وبالتالي بالغوا في تقدير الحد الذي وصل إليه نظام السوق الأمريكية الحالي ليكون إجراءً منصفاً في تخصيص الثروة.
وكنا قد بيّنا سابقاً أن وجهات النظر المتعلقة بالإنصاف ستكون أكثر قدرة على التنبؤ بالاستياء نتيجة وجود عدم مساواة اقتصادية. وبذلك، ستسهم الثقافة العامة حول النسبة الراهنة الفعلية للتحوّل بضمان أن يستند تقييم الأفراد الأخلاقي للعالم الذي يعيشون فيه إلى حقائق ذات صلة.
- ثانياً: كثيراً ما يطمس الخطاب السياسي المعاصر المخاوف التي ينبغي أن يُنظَر إليها على أنها متميزة، كما تختلط المخاوف بشأن عدم المساواة مع المخاوف من الفقر وتلاشي الحقوق الأساسية، وكما ركزنا هنا، تختلط مع المخاوف من عدم الإنصاف.
وإذا كان صحيحاً أن عدم المساواة في حد ذاته ليس ما يزعج الناس حقاً، عندها سنكون أفضل حالا إذا بددنا هذه المخاوف بعناية وحولنا تركيزنا إلى المشكلات التي تهمنا أكثر.
وبهذا، فإن الاعتراف بأن الإنصاف والمساواة مختلفان لا يمكن أن يكون مجرد حاشية للدراسات التجريبية، كما لا يمكن أن يكون مجرد أمر تافه نادراً ما يتم الاستشهاد به في المحادثات السياسية التي تتصارع مع عدم الإنصاف، لكنه يشكّل الحوار في إطار المساواة.
وسيتم تسهيل تحقيق التقدم في المختبر وفي العالم الحقيقي من خلال تركيز النقاش على ما يهم الناس بالتحديد - الإنصاف - وليس على ما لا يهتم به الناس وهو المساواة.