الانتخابات الماليزية .. الديمقراطية قيم قبل أن تكون شكليات

الانتخابات الماليزية .. الديمقراطية قيم قبل أن تكون شكليات
الانتخابات الماليزية .. الديمقراطية قيم قبل أن تكون شكليات

أعادت صناديق الاقتراع في ماليزيا إلى رئاسة الوزراء الطبيب محمد مهاتير، الذي سبق له أن أعلن اعتزاله المجال السياسي في تشرين الأول (أكتوبر) 2003، بعدما قضى 22 سنة في المنصب؛ محققا بذلك واحدة من أطول فترات الحكم في القارة الآسيوية. لكن الرجل عدل عن قراره، وخاض غمار الانتخابات التشريعية الـ 14 في البلاد مطلع هذا الشهر، محققا فوزا كاسحا ضمن تحالف الشعب (جبهة الأمل)، بحصوله على 122 مقعدا، مقابل حصول تحالف "الجبهة الوطنية" (الائتلاف الحاكم السابق) على 76 مقعدا، من إجمالي المقاعد البالغة 222 مقعدا.
بعد أقل من 48 ساعة من إعلان النتائج الرسمية للانتخابات التشريعية الماليزية في 9 أيار (مايو) الجاري، تسارعت الأحداث بشكل لافت للنظر، إذ تم منع نجيب عبد الرزاق رئيس الوزراء من مغادرة البلاد، بعد إعلانه الاستقالة من رئاسة ائتلاف الجبهة الوطنية الذي حكم البلاد لعقود من الزمن. كما تم الإعلان عن قرب موعد الإفراج عن الزعيم السياسي أنور إبراهيم، تنفيذا لوعد أطلقه مهاتير عدوه السابق وحليفه الجديد، من أجل عودته إلى الساحة السياسية.
ينظر الكثيرون إلى التجربة الماليزية بعين الإعجاب؛ وغير ما قليل من الانبهار، ففي عز الركود الديمقراطي عالميا، تمكن الماليزيون من إيصال شيخ إلى سدة الحكم، ليصبح مهاتير أكبر رئيس وزراء في العالم، بعد هزيمة نجيب عبد الرزاق (2009 -2018) في انتخابات شهدت منافسة عنيفة، وضعت نهاية لستة عقود من سيطرة الائتلاف الحكم على السلطة الذي كان في مرحلة سابقة جزءا منه (1981 - 2003).
تخفى على هؤلاء المعجبين بهذه التجربة تفاصيل دقيقة، تستحق أن تكون محل قراءة وتأمل، لأن فيها عديدا من المؤشرات عن مدى تجدر قيم الديمقراطية في التجربة السياسية الماليزية، وليس مجرد ممارسات ظاهرية تبقي البلد رهينة الديمقراطية الشكلية فقط.
تضم تركيبة تحالف الأمل الفائز في الانتخابات، أربعة أحزاب سياسية، هي: حزب "عدالة الشعب" بزعامة أنور إبراهيم (49 مقعدا). وحزب "العمل الديمقراطي" الذي يهيمن عليه المواطنون ذوو الأصول الصينية (42 مقعدا). ثم حزب "الأمانة الوطنية" الذي انشق عن الحزب الإسلامي (10 مقاعد). وأخيرا مرشحو حزب "وحدة أبناء الأرض" الذي أسسه مهاتير (12 مقعدا).
إن تحالفا حزبيا بين أربعة مكونات سياسية متنوعة فكريا وعرقيا، يثير عديدا من التساؤلات بشأن المرجعية السياسية والأيديولوجية الحزبية وأولويات البرنامج السياسي ... فلا شيء في الأفق بهذا الخصوص، غير توافق زعماء الائتلاف في 7 كانون الثاني (يناير) على مهاتير محمد كمرشح لرئاسة الوزراء.
أظهر مهاتير قدرة كبيرة على نسج التوافق بشكل واضح مع الرموز التي تم سجنها في عهده، وعاد ليتحالف معهم الآن. ومن أبرز تلك الشخصيات أنور إبراهيم المعارض الماليزي المعروف، الذي سجن في عهد مهاتير، وكان وقتها نائبا له، كما أعيد سجنه مرة أخرى في عهد عبد الرزاق، وفي كلتا المرتين كانت التهمة "الفساد".
في المقابل لم تطرح؛ قبل ولا إبان ولا بعد الانتخابات، أي ضمانات قانونية أو سياسية حتى لا يتكرر سيناريو الاعتقال للمشاركين مع هذا الشيخ في الائتلاف الحكومي. فالماليزيون يتحفظون في ذاكرة بواقعة أنور إبراهيم الذي طرده مهاتير من حكومته في أيلول (سبتمبر) 1998، بسبب تهم تتعلق بالفساد والمحسوبية والجنس. ثم اعتقل في نيسان (أبريل) 1999، وحكم عليه بست سنوات، كانت صدمة للشارع الماليزي، الذي اعتبر المحاكمة سياسية لاغتيال رمزية أنور؛ فنزلوا إلى الشوارع في احتجاجات مستمرة لثلاثة أيام؛ تحوَّلت أحيانا إلى عنف قابله عنف آخر من قوات مكافحة الشغب.
خصوصا، أن هذا الائتلاف يبقى في جوهره "حلف الضرورة" الانتخابية فقط، قصد إسقاط الجبهة الوطنية التي خسرت 54 مقعدا، رغم كل محاولاتها لكسب النزال الانتخابي من خلال تعديل قانون الانتخابات، الذي غيرت بموجبه توزيع أصوات الناخبين على الدوائر الانتخابية، بما يضمن لها الفوز بعدد أكبر من الدوائر. كما أقر البرلمان قبيل الانتخابات قانون مكافحة "الأخبار الكاذبة"، الذي رأته المعارضة سيفا مصلتا على رقاب منتقدي الحكومة ورئيسها.
تمتد هشاشة التجربة الديمقراطية في ماليزيا إلى السلطة القضائية، التي اهتزَّت صورتها بعد الحكم القاسي على أنور إبراهيم، حيث انطلق جنون المحاكمات في هذه الفترة. وأصبح الكلّ يقاضي الكل! قادة الحكومة يحاكمون المعارضة على تهم الفساد، ورجال الأعمال يحاكمون الصحافيين على نشر قصص عنهم، واتهامهم بالمحسوبية.
طرح الموضوع بشدة مجددا عقب هذه الانتخابات، حيث وعد مهاتير بإطلاق صراح عدوه القديم، حليفه الجديد أنور إبراهيم، وكانت العلاقة المتوترة بينه وبين نجيب إشارة قوية على قرب موعد اعتقاله. ما يثير أكثر من تساؤل حول استقلالية السلطة القضائية؟ ومدى انفصالها عن السلطة التنفيذية؟ ثم أي قراءة أو تأويل سيكون لما يقوم به مهاتير في ميزان القيم الديمقراطية؟
أسئلة إلى جانب أخرى عدة، على كل المنبهرين بالتجربة "الديمقراطية الماليزية" أن يجدوا لها أجوبة، قبل الهرولة للحديث عن نموذج ديمقراطي صاعد في آسيا، فليس كل ما يلمع ذهبا كما يقول المثل، ثم لا بأس من التذكير بأن النازيين في ألمانيا والفاشيين في إيطاليا وصلوا إلى سدة الحكم بالديمقراطية، لكن سرعان ما ارتدوا عنها لأن الديمقراطية ثقافة وقيم قبل أن تكون نسبا وأصواتا وصناديق.

الأكثر قراءة