معلم عالمي لحظة الانهيار
بعد مرور عشر سنوات على انهيار "ليمان براذرز"، يقدم لنا كتاب "حطام" من تأليف المؤرخ الشهير آدم تووز من جامعة كولومبيا، تاريخا شاملا للأزمة المالية العالمية حتى عهد دونالد ترمب. يمثل الكتاب في المقام الأول نقدا لاذعا لاستجابة السياسة المالية العالمية للانهيار. ولتخمين نهاية الطرفة، فإن كل ما يحتاج المرء إلى معرفته حقا هو أن كلمة "تقشف" تظهر 102 مرة دون تعريف واضح على الإطلاق. فهل يعني التقشف في حقيقة الأمر خفض الإنفاق الحكومي والديون، أو يعني ببساطة إبطاء معدل ارتفاع الإنفاق و/أو الاقتراض؟ يستخدم تووز المصطلح نفسه لوصف نطاق واسع إلى حد مربك من السياسات والأحداث. الواقع أن مثل هذا الاستخدام الحر للمصطلح يشوش المناقشة عند مراحل أساسية. وهو على نطاق أوسع يمثل رمزا لتحليل اقتصادي يبدو أن جذوره تمتد إلى قراءة انتقائية لتعليقات ذات ميول يسارية، وليس إلى مصادر اقتصادية أو تاريخية أولية، ناهيك عن مسح متوازن للأدبيات العلمية.
على سبيل المثال، يقال لنا إن اليونان كانت خلال أزمة منطقة اليورو "خاضعة لأشد برامج التقشف قسوة عرضت على ديمقراطية حديثة". وقد يبدو هذا وكأنه يشير إلى أن "الترويكا" - صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية - كانت تطالب اليونان بأن تتحمل على الفور الحجم الإجمالي لديونها. والواقع أن العكس هو الصحيح، ففي السنوات التي أعقبت الأزمة، عندما فقدت اليونان القدرة على الوصول إلى أموال جديدة في الأسواق الخاصة، أعطتها "الترويكا" ما يكفي لتمكينها من الوفاء بكل التزامات السداد، إضافة إلى مبلغ كبير من الأموال الجديدة الإضافية، وبالتالي تقليص حجم التقشف الذي واجهته حتما عندما انتهت عربدة الاقتراض.
الحقيقة حول "التقشف"
أنا أؤيد من صميم قلبي تأكيد تووز أن أوروبا كان من الواجب عليها أثناء الأزمة أن تفكر في طريقة لشطب ديون اليونان، ناهيك عن ديون البرتغال، وإيرلندا، وإسبانيا، التي كانت تطالب بمعاملة متساوية. وكان لزاما على ألمانيا أن تقبل مسار العمل هذا، حتى لو كان ذلك يعني زيادة ديونها لإعادة رسملة المصارف الألمانية، التي أقرضت جنوب أوروبا. وقد ناقشت هذه النقطة على نطاق واسع في ذلك الوقت، سواء على المستوى العام أو مع صانعي السياسات. ولا تستطيع الدول المثقلة بالديون أن تحقق القدر الكافي من النمو بسهولة للإفلات من أعبائها دون أي شكل من أشكال التدخل السياسي غير المتجانس، سواء كان التخلف عن سداد الديون أو القمع المالي. وبالطبع، في حالة منطقة اليورو، كان البنك المركزي الأوروبي قد استبعد التضخم بالفعل من على الطاولة.
ومع ذلك، فإن الاقتراح أن اليونان الفقيرة كان عليها أن تسلم الأموال النقدية لألمانيا الغنية كان مجرد تصور زائف. فإذا نظرنا إلى ما وراء استخدام تووز لكلمة "تقشف" كسلاح، فإن التقدير المباشر المستند إلى بيانات عامة متاحة بسهولة يظهِر أن اليونان تلقت من الدائنين في سنوات ما بعد الأزمة من القروض الجديدة والمساعدات ما يزيد كثيرا على ما طلب منها سداده. علاوة على ذلك، كانت تجربة اليونان ناتجة في المقام الأول عن إغلاق الأسواق الخاصة لصنبور الاقتراض. وعندما حدث ذلك، لم تعد الأموال التي توفرها "الترويكا" كافية لدعم الإنفاق غير المستدام في اليونان. ووفقا لصندوق النقد الدولي، كانت الحكومة اليونانية عام 2009 تدير "عجزا أوليا" 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يعني أن اقتراضها الجديد كان مساويا لكل أصل الدين المستحق عليها والفوائد، إضافة إلى 10 في المائة إضافية من الناتج المحلي الإجمالي. ولهذا، فبعد أن توقفت تدفقات رأس المال الأجنبي عام 2010 - وهو ما يرجع جزئيا إلى الكشف عن احتيال محاسبي من جانب الحكومة اليونانية - بات لزاما على اليونان أن تقوم بتعديل مالي ضخم يعادل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، حتى لو تقرر شطب 100 في المائة من ديونها! وكانت عملية تقليص العجز والدين المؤلمة في اليونان لتصبح أشد سوءا. إذ كان برنامج الإنقاذ الذي قدمه صندوق النقد الدولي أكثر ليونة من ذلك الذي قدمه الصندوق لدول شرق آسيا في تسعينيات القرن العشرين، فكان لزاما على تلك الدول أن تقلب حساباتها الجارية من العجز الحاد إلى الفائض على الفور. وليس من المستغرب أن يشكو القادة الماليون في آسيا من حصول اليونان على معاملة محابية من قِبَل صندوق النقد الدولي ومجلس إدارته الذي يهيمن عليه أوروبيون. في نهاية المطاف، كان السبب الرئيس وراء التقشف في اليونان هو إسرافها في المرحلة التي سبقت الأزمة، وليس قسوة "الترويكا" في مرحلة ما بعد الأزمة، مهما ارتكبت من أخطاء.
يشيد تووز بالاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، جوزيف ستيجليتز وبول كروجمان والنصيحة التي قدماها لرئيس الوزراء الاشتراكي المنتخب حديثا في اليونان، أليكسيس تسيبراس، ووزير المالية اللامع الذكي يانيس فاروفاكيس، بعد توليهما منصبيهما عام 2015. وقد وعدت حكومة تسيبراس بتجاهل الألمان و"الترويكا"، ووضع حد للتقشف، والتخلي عن اليورو إذا لزم الأمر. والآن يتساءل المرء ما إذا كان تسيبراس على علم تام بموقفه التفاوضي الهش، وحول من كان يعطي المال لمن. لم تكن اليونان قد بدأت في سداد الديون بعد، وكان تسيبراس يخاطر حتى بتقشف أشد قسوة في الأمد القريب، عندما يعض اليد التي تقدم العون. أما عن التخلي عن اليورو، فإن هذا كان ليثبت في نهاية المطاف كونه الفصل النهائي المنطقي، لكن الانتقال كان ليستغرق سنوات، وكان ليتطلب التعاون مع أوروبا، وليس الدخول معها في مواجهة.
في ذلك الحدث، تبين أن الاستراتيجية الاقتصادية لتسيبراس ومستشاريه كانت كارثة، وقد سارعت ألمانيا إلى تحدي مزاعمهم، ومع تصعيد تسيبراس لخطابه، أخرج المواطنون اليونانيون 100 مليار يورو (108 مليارات دولار) من البلاد، الأمر الذي أدى إلى تفاقم محنتها إلى حد كبير. صحيح أن "الترويكا" دفعت في نهاية المطاف 100 مليار يورو اللازمة لدعم المصارف اليونانية، لكن تلك الأموال كانت قادمة على أي حال، وكان من الممكن استخدامها بشكل أفضل كثيرا.
خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2018.