كرواسون .. أكذوبة الحرب وزراعة الكراهية
تنتشر الأساطير والخرافات بشكل كبير في ثقافات الشعوب، ولعل العرب من أقل الشعوب نصيبا منها. ولم يسلم الطعام من هذه الخرافات فحاكوا حوله شيئا من ذلك، ومن أشهر القصص في هذا المجال ما يدور حول حلوى أم علي وأنها سميت بهذا الاسم بعد أن تمكنت أم علي زوجة السلطان عز الدين أيبك من قتل ضرتها الشهيرة شجرة الدر. وهي رواية لم تذكر في أي كتاب تاريخي، وإنما شاعت لدى بعض العوام بعد فترة طويلة من وفاة شجرة الدر. ومن خرافات الطعام ما يقوله الحكواتية عن الكرواسون.
والكرواسون عجينة على شكل هلال تحشى حسب رغبة صاحبها؛ بالجبن أو العسل، أو المربى، أو غير ذلك، ثم تُوضع في الفرن حتى تَحمر، ثم تؤكل. أما قبل اختراع الفرن فيبدو أنها كانت تقلب في مقلاة على النار.
أشهر خرافة تتعلق بالكرواسون ويروج لها كثير من الكتاب هي التي تربط بين صنعه وبين غزو العثمانيين لمدينة فيينا عاصمة النمسا، وقد نقلها عدد من الكتاب الغربيين والعرب، وليس لها أصل يوثق به، وإنما تناقلوها عن بعضهم عبثا دون تأمل. وسأورد رواية الدكتور عبدالمجيد حسين لها، وقد نشرها في مقالة تحت عنوان "الدلالات الاستعمارية لحكاية الكرواسون"، ويقول فيها: "العثمانيون غزوا أوروبا، وأنهم وصلوا في زحفهم غربا إلى أسوار فيينا، عاصمة النمسا الحالية، فاستعصت عليهم لعظم وحصانة أسوارها، وطال أمد الحصار دون جدوى، فكان أن فكر الفاتحون العثمانيون في طريقة أخرى للاستيلاء على المدينة، وهي الدخول إليها من تحت الأرض عبر نفق يحفرونه فيتخطون عقبة سور المدينة، وبدأوا بالتنفيذ، واستمر الحفر ليلا ونهارا حتى كاد العثمانيون أن ينجحوا في خطتهم. وحدث ما لم يكن بالحسبان: تزامن الحفر ذات ليلة مع اقترابه من مخبز المدينة، حيث كان هناك أحد الخبازين النمساويين يعمل ليلا في مخبزه ليكون الخبز جاهزا في الصباح لأهل مدينته... لاحظ ذلك الخباز وسط هدأة الليل صوتا غريبا غير معتاد.. سمع نقرا منتظما ومستمرا في باطن الأرض قريبا منه، حيث يقبع هو في حفرته أمام فرنه المشتعل ففكر فيما عساه أن يكون ذلك النقر المستمر في جوف الليل، وفي جوف الأرض. وقادته شكوكه إلى مخاوف كبيرة، فاستجمع أمره وتوجه إلى حاكم المدينة فأطلعه على الأمر. حضر الحاكم ومعه الخبراء ليستوضحوا الخبر، بعد الإمعان استيقنوا أن العثمانيين يحفرون نفقا تحت الأرض، وكانت خطة الحاكم أن يتركوا العثمانيين حتى يتموا الحفر، ويستعد الحاكم ومن معه ليباغتوهم عند وصولهم إلى سطح الأرض، فيقوموا بالقضاء عليهم وهكذا كان. وتم لأهل فيينا ما أرادوا واستطاعوا دحر العثمانيين وكسر شوكتهم.. وكانت هزيمة نكراء أبيد فيها معظم الجيش العثماني وتم أسر أعداد كبيرة منهم، وتحطمت أحلام العثمانيين على أسوار فيينا. وعندما أراد أهل المدينة أن يحتفلوا بالنصر العظيم، وتكريم الرجل الذي كان له في نظرهم الفضل في هذا الانتصار. أرادوا أن يكون التكريم بحجم الانتصار وأراد الخباز أن يخلد مهنته وألا ينتهي التكريم بانتهاء المهرجان وانصراف الجميع. أراد أن يكون التكريم دائما ومستمرا على مر الأيام والأزمان حتى لا ينسى أهل مدينته دور الخباز في ذلك النصر الكبير، فطلب موافقة حاكم المدينة على السماح له بصنع خبز على هيئة الهلال، كناية عن شعار عدوهم، يلتهمه أهل المدينة يوميا، ليتذكروا مع إشراقة كل يوم أنهم يقضمون الهلال رمز العثمانيين وشعارهم". والدكتور عبدالمجيد يوضح في بداية مقالته أنه ترجم هذه القصة من كتاب في "إحدى الدول الأوروبية". والذي يقرأ هذه القصة التي صيغت بأسلوب مشوق لا يخالطه الشك في أنها من صنع الخيال، ولا تمت للحقيقة بصلة.
أي دور لخباز في هذا النصر؟ وقد جاءت جيوش أوروبا بعشرات الألوف للدفاع عن فيينا، أي دور لخباز وقد قتل الآلاف أمام أسوار فيينا.
وقعت هذه المعركة في 20 رمضان 1094هـ/ 1683، وتعرف باسم معركة فيينا، أو حصار فيينا، أو معركة ألمان داغي، وقد خسر العثمانيون في هذه المعركة بسبب أخطاء وخيانات وقعت بين العثمانيين أنفسهم.
ولمزيد من التأكد حاولت أن أبحث عن مصدر متقدم موثوق وردت فيه الحكاية السابقة، أو ما يقاربها، ولم أعثر على شيء. وأكثر الذين كتبوا عنها نقلوا عن كتاب "معجم لاروس"، وقد أشار هذا المعجم إلى أنها قصة خرافية لا أساس لها من الصحة. كما وردت في كتب أخرى معلومات متضاربة ومتناقضة ولا يمكن الاعتماد عليها.
بدأت قصة الكرواسون كخرافة يحكيها بعض العوام في أوروبا، ولا شك أنها تعجب بعض المتطرفين المسيحيين، ثم نقلها بعض المؤلفين الأوروبيين ولم يجزموا بصحتها، وعدها بعضهم خرافة، ثم ترجمها بعض الأتراك والعرب ونقلوها على أنها حقيقة تاريخية دون التفكير في محتواها. وفي السنوات الأخيرة بدأ بنشرها بعض الحزبيين الذين يحرقون أنفسهم بتزوير تاريخ يمجد الدولة العثمانية، وتزوير وثائق لتمجيد هذه الدولة أو لتشويه خصومها. على أن هناك من يذكر أن الكرواسون صنع أول مرة بسبب هزيمة المسلمين أيام الدولة الأموية في معركة بلاط الشهداء عام 114هـ/ 732، وهي أيضا من خرافات العوام، إلا أنها لم تنتشر كما انتشرت خرافة فيينا، ويبدو لي أن ذلك يعود إلى سببين: الأول: أن الأوروبيين ينظرون إلى العرب نظرة مختلفة عن نظرتهم إلى الأتراك والعثمانيين، فعلى الرغم من أن العرب جاؤوا فاتحين لبعض مناطق أوروبا، وسيطروا على الأندلس، إلا أنهم صنعوا هناك حضارة عظيمة، وحققوا عدالة تفوق بكثير ما كان موجودا قبلهم، وتسببوا في تطور قارة أوروبا وازدهارها، ولذلك فإن المنصفين من المؤرخين والمستشرقين الأوروبيين يثنون على العرب وحضارتهم، بل تمنى بعضهم مثل غوستاف لوبون لو سيطر العرب آنذاك على أوروبا كلها. بينما ينظر هؤلاء المؤرخون أنفسهم إلى الدولة العثمانية على أنها دولة ظالمة همجية يهمها التوسع والاستيلاء على دول أوروبا وغيرها بالقوة العسكرية دون تحقيق العدالة، أو صنع حضارة. أما السبب الثاني: فيتعلق بالحزبيين الذين أشرت إلى أنهم يحرقون أنفسهم عبر التزوير والتفسير الخاطئ للتاريخ، ويظنون أنهم من خلال نشرهم لهذه الخرافة يخدمون تاريخ الدولة العثمانية.
بني على هذه الخرافة أشياء عديدة حتى وصل الأمر إلى أن يحتاط بعض الناس في أكل الكرواسون، وشكوا في حله من حرمته، واستفتوا في ذلك.
نشأت هذه الخرافة في أوروبا، ثم انتقلت إلى الشرق، والعجيب أن بعض من يروج لها من الفريقين ممن يَدعون التسامح، وهم إنما ينشرون من خلالها الكراهية، وليتهم يستمعون إلى أمير الشعراء أحمد شوقي:
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غدٍ
بين الشعوب مودة وإخاء