ترمب .. عد تنازلي للعزل أم مناورة سياسية؟

ترمب .. عد تنازلي للعزل أم مناورة سياسية؟

يدخل المشهد السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية معركة داخلية شرسة، حدود الربح والخسارة فيها غير معروفة، فقد شُرِع عمليا في إجراءات المساءلة الرسمية للرئيس دونالد ترمب قصد عزله، بعدما فشلت سبع محاولات منذ دخوله البيت الأبيض، بذلك يكون رابع رئيس أمريكي يتعرض لهذا الإجراء الدستوري، الذي لاحقه بسبب تهمة الاستعانة بدولة أجنبية في محاولة لإسقاط منافسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تعود تفاصيل هذا الحادث إلى منتصف آب (أغسطس) الماضي، حين أقدم مجهول يعمل في جهاز الاستخبارات الأمريكية، على تقديم شكوى عن مكالمة هاتفية دارت بين الرئيسين الأمريكي والأوكراني، تبيّن من فحواها أن دونالد ترمب طلب من محدِّثه الأوكراني التحقيق في مزاعم فساد طالت هانتر بايدن، نجل منافسه جو بايدن المرشح باسم الحزب الديمقراطي للرئاسيات، حين كان نائبا لرئيس شركة عملت في مجال الطاقة في أوكرانيا.
أراد ترمب من الجانب الأوكراني موافاة وزارة العدل الأمريكية بطلب للتحقيق، مع بايدن الابن خلال فترة عمله في تلك الشركة، التي تتزامن مع تولي والده منصب نائب الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما. بهذه المساعي يكون الرئيس قد خرق أكثر من قاعدة في القانون الأمريكي، حين أسند التحقيق، تحت إشراف وزارة العدل، إلى أدولف جولياني محاميه الشخصي المفتقد لأي صفة حكومية، وحين قايض تنفيذ هذا الأمر بالإفراج عن المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا.
تأتي هذه "الطبخة" السياسية الفاسدة، بعدما أضحى الرئيس في الآونة الأخيرة موضع توجس ومراقبة، من قبل مجلسي النواب والشيوخ، وقد أضيفت قشة أوكرانية فوق ثقل ملف التورط الروسي في ترجيح كفته في رئاسيات 2016، وتركة تقرير المحقق روبرت مولر، ما حال هذه المرة دون وقف الإجراءات، فالتكيف الأولي للوقائع يفيد بأن الرئيس خالف مقتضيات الدستور، وطلب مساعدة دولة أجنبية ضد مواطن أمريكي، بهدف تشويه سمعته من أجل الكسب السياسي.
تبقى هذه الأزمة الأخطر من نوعها، مقارنة بكل المحاولات السابقة للديمقراطيين قصد إدانة الرئيس ترمب، لكنها لم تصل حتى الآن إلى مستوى من شأنه أن يشكل تهديدا مباشرا للرئيس. فقد عدّ - في تعليق له على تطورات القضية؛ بعدما ارتفع عدد الديمقراطيين المؤيدين لتوجيه الاتهام إلى 221 عضوا، مقابل معارضة 199 عضوا من الحزب الجمهوري - نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب "تضيع وقتها في أزمة مصنّعة".
يدرك ترمب جيدا أن مصيره في يد مجلس الشيوخ، فهو وحده من يمتلك حق إدانة الرئيس، بموجب الفقرة الثانية من المادة الأولى من الدستور الأمريكي. فما يجري حاليا في مجلس النواب حدث مع رؤساء آخرين؛ فقد سبق لإجراءات العزل في هذا المجلس أن طالت كلا من الرئيسين أندرو جونسون "1865- 1869" وبيل كلينتون "1993- 2001"، لكنها لم تصل إلى نهايتها، فيما فضل الرئيس ريتشارد نيكسون "1969 -1974" وضع حد لها بتقديم استقالته، قبل انتهاء الإجراءات في قضية ووترجيت.
يتطلب عزل الرئيس - وفق الدستور الأمريكي - تحقيق أغلبية بسيطة في مجلس النواب؛ أي 218 من أصل 435 عضوا. تليه إقامة محاكمة للرئيس داخل مجلس الشيوخ، تسند فيها مهمة الادعاء العام إلى أعضاء مجلس النواب، بينما يتولى أعضاء مجلس الشيوخ مهمة المحلّفين، في جلسة يتولى رئاستها رئيس المحكمة العليا، يعقب كل هذا تصويت داخل مجلس الشيوخ بنسبة الثلثين، أي تحصيل 67 صوتا مؤيدا من أصل مائة عضو.
عقبة مجلس الشيوخ هذه هي ما يحتمي به ترمب، فحتى اللحظة لم يظهر على الساحة السياسية الأمريكية ما يكفي لشق صف الجمهوريين، وإقناعهم بأن رئيسهم خرق الدستور، ما يعني أن ترمب مدعوم بأغلبية جمهورية تمثل 53 عضوا في المجلس، فيما لا يمثل الديمقراطيون داخله سوى 45 مقعدا، إلى جانب عضوين مستقلين، يصوتان عادة مع الديمقراطيين. هذه التركيبة لا تصل إلى الـ67 عضوا اللازمة لإدانة الرئيس وعزله، فالأمر يستلزم علاوة على ذلك انضمام 20 عضوا جمهوريا للديمقراطيين والمستقلين.
مهما تكن النتائج والمآلات التي تنتهي إليها معركة تكسير العظام بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الداخل الأمريكي، فهي تؤكد أولا أنه لا أحد فوق المحاسبة؛ بما في ذلك الرئيس نفسه، ثانيا، قوة ومتانة البناء المؤسساتي للدولة في أمريكا؛ فتنامي الخطاب الشعبوي، والعزف على وتر القومية، وحمى العرقية وسعار الانعزالية لم تنعكس في شيء على أداء الدستور الأمريكي، وعلى مبادئ فصل السلطات، ومراقبة بعضها بعضا، خاصة حين نعلم أن كل هذا السجال بسبب شكوى من مجهول ضد الرئيس، حيال قضية سبق لبايدن نفسه أن تباهى بشأنها، حين أعلن أنه ضغط على رئيس أوكرانيا السابق، فثمت شريط متداول على شبكة الإنترنت، يعترف فيه الرجل بأنه ذهب إلى أوكرانيا، وقال للرئيس "لديك ست ساعات فقط، إما أن تزيح المحقق الذي يحقق مع ابني، أو أنني سأقطع المساعدات عن أوكرانيا".
إن إفلات ترمب من هذه المصيدة - أي انتهاء التحقيق دون عزله - سيكون استثمارا سياسيا كبيرا، يضمن له السير بكل اطمئنان نحو ولاية ثانية في البيت الأبيض، فتبرئته في هذه القضية ستكون بمنزلة حجة لإقناع الناخبين المعتدلين والمترددين بشأن برنامجه، علاوة على أنه سيروج لما وقع في مرحتله الانتخابية كتنافس سياسي غير شريف من جانب الديمقراطيين، كما أنه سيستغل هذه القضية في النيل من أجهزة الاستخبارات الأمريكية، كي يدخل إلى الولاية الثانية وقد سيطر على المؤسسات الرقابية كافة.

الأكثر قراءة