أهمية السياسة المالية
عززت الأزمة المالية العالمية عام 2008 دور وأهمية السياسة المالية في التصدي للأزمات الاقتصادية عندما لم تتمكن السياسة النقدية منفردة من منع حدوث الانكماش الاقتصادي. وتعبر ميزانيات الدول عن سياساتها المالية، حيث تحدد الميزانيات الحكومية خطط وسياسات الإنفاق والإيرادات للحكومات المركزية والإقليمية والمحلية. وتتضمن معلومات وبيانات وشروحات الميزانية قضايا مالية واقتصادية متعددة تؤثر في مختلف نواحي الاقتصاد الوطني وتفاعلاته. تستخدم الحكومات ميزانياتها لتنفيذ سياساتها المالية، وتشغيل إداراتها المختلفة، وتقديم الخدمات المكلفة بإنجازها، وأهمها خدمات الدفاع عن الأمن الوطني والمحافظة على أمن السكان وثروات البلاد. وتظهر في الميزانية مختلف أدوات السياسة المالية، كالإنفاق والضرائب والدعم والتحويلات والعجز المالي الذي يؤثر ويتأثر بالدين الوطني. وتحاول الحكومات الالتزام بخطط الإنفاق والإيراد في الميزانية وكبح ميل البيروقراطية الحكومية للمبالغة في الإنفاق حتى لا يتفاقم العجز المالي وتتراكم الديون العامة إلى مستويات غير مستدامة. وتنجح الحكومات في كثير من الأحيان في الالتزام بقيود الميزانية وحدود الإنفاق، وقد لا تنجح. ويعود عدم التوفيق في الالتزام بقيود الميزانية إما إلى أسباب بنائية وإما إلى عوامل اضطرارية. ومن الأسباب البنائية تركيبة البيروقراطية الحكومية والعوامل السياسية التي تحد من مرونة التحكم في الإنفاق أو تجبر الدولة على زيادة الإنفاق بغض النظر عن الإيرادات. أو قد تعود إلى نقص القدرات الفنية في إعداد التوقعات، أو عدم التوفيق في إعدادها. أو قد ترجع إلى صعوبة تقدير الإيرادات بسبب تأثرها بعوامل خارجة عن سيطرة الدولة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الإيرادات النفطية التي تتأثر بتقلبات الأسعار العالمية، التي يصعب التحكم فيها أو حتى التنبؤ الدقيق بمسارها خلال العام المالي. وقد تضطر الحكومات لزيادة الإنفاق الفعلي خلال فترة الميزانية لمواجهة ظروف طارئة أو تهديدات أمنية، أو قد تنخفض الإيرادات عن المتوقع، ما يضع ضغوطا على الإنفاق أو يرفع العجز المالي.
وتستخدم الدول أدوات السياسة المالية لتنفيذ خططها وتوجهاتها الاقتصادية، وتنمية البلاد والحفاظ على مسيرة النمو المستدام، وتعظيم الرفاهية الاجتماعية. وعموما، تسعى الدول جاهدة إلى توفير الاستقرار الاقتصادي - التوظيف الكامل للعمالة وخفض معدلات التضخم إلى مستويات مقبولة - من خلال أدواتها المالية، بما في ذلك التخفيضات الضريبية ومواصلة تحقيق معدلات نمو إيجابية في الإنفاق المحلي. وتتوقف تلك المعدلات على ظروف كل بلد والأوضاع الاقتصادية فيه، حيث يتطلب توظيف العمالة الإضافية كل عام معدلات نمو اقتصادية إيجابية لا تتحقق عادة إلا بمعدلات نمو إيجابية معينة في الإنفاق الحكومي. وتتحاشى الدول المبالغة في زيادة الإنفاق الحكومي فوق مستويات معينة لتجنب الدخول في دوامة الضغوط التضخمية القوية التي تلحق الضرر بمسيرة النمو.
وتوجه الحكومات الإنفاق والدعم إلى قطاعات معينة وتستخدم الأنظمة الضريبية لتحسين الكفاءة الاقتصادية ورفع معدلات دخول ورفاهية السكان، من خلال التركيز على قطاعات تنمية الموارد البشرية، كالتعليم والتدريب والرعاية الصحية وتطوير البنية الأساسية. وتستخدم الدول السياسات المالية أيضا لتوفير قدر أكبر من العدالة الاجتماعية بين الشرائح السكانية المختلفة، سواء من خلال التحويلات والدعم للفئات الأكثر احتياجا، أو توفير الخدمات الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية لعموم السكان. وتوجد في المملكة عديد من برامج الدعم والتحويلات وشبكات الحماية الاجتماعية، أبرزها مخصصات الضمان الاجتماعي، وحساب المواطن، وبرامج الإسكان. كما توفر المملكة خدمات التعليم والرعاية الصحية لعموم المواطنين، وخدمات متنوعة أخرى تستهدف فئات اجتماعية معينة.
ويشكل الإنفاق الحكومي جزءا كبيرا من الناتج المحلي في دول العالم، لكن أهميته تزداد في المملكة، حيث تتجاوز قيمته حاليا ثلث الناتج المحلي الإجمالي. إضافة إلى ذلك، يوفر الإنفاق الحكومي الجزء الأكبر من الأجور، خصوصا للمواطنين. ويسهم الإنفاق العام بقوة أيضا في المشتريات المحلية من السلع والخدمات وإجمالي الاستثمارات القومية، ما يحفز أنشطة القطاع الخاص ويدعم أرباح الأعمال والتوظيف فيها. ويعزز نمو الإنفاق الحكومي داخل الاقتصاد الوطني الطلب الكلي على السلع والخدمات، ما يدفع بالنمو الاقتصادي الذي يولد الوظائف ويرفع دخول الأسر. كما تلعب السياسة المالية الدور الأساسي في سياسات توزيع الدخل في البلاد، حيث توفر الدعم للشرائح السكانية الأقل دخلا، سواء من خلال سياسات الدعم المباشر وغير المباشر، أو توفير الخدمات الحكومية المجانية، كالتعليم والصحة، أو من خلال برامج التحويلات النقدية أو دعم السلع الأساسية، أو توفير فرص الحصول على الائتمان المدعوم. ويمكن استخدام الضرائب أيضا بطريقة حصيفة لتحسين عدالة الدخل من خلال تصميم ضرائب تستهدف مرتفعي الدخل والثروات، ومن ثم تحويل إيراداتها أو المنافع من إنفاقها لمصلحة الفقراء ومحدودي الدخل.
وتستخدم السياسة المالية أيضا لجذب وتوجيه الاستثمارات المحلية والأجنبية، سواء من خلال الإعفاءات والحسومات الضريبية أو الدعم أو التحويلات أو دعم الائتمان أو توفير الخدمات وتطوير البنية الأساسية والمجمعات الصناعية. كما تستخدم السياسة المالية للتعامل مع الدورات الاقتصادية، حيث تشدد الدول سياستها المالية - أي تخفض الإنفاق أو ترفع الضرائب - في حالة التسخين الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم، بينما تتبنى سياسات التيسير المالي عند انكماش الاقتصاد وتراجع التوظيف والاستثمار لتشجيع القطاع الخاص على التوظيف والاستثمار.