الدولار يهيمن بالديون «1من 3»

ظل الدولار عملة الاحتياطي العالمية الأولى في معظم فترات القرن الماضي. وعزز مكانته كعملة الاحتياطي العالمي المهيمنة تصور المستثمرين الدوليين، بمن فيهم البنوك المركزية الأجنبية، بأن الأسواق المالية الأمريكية ملاذ آمن. وذلك التصور أدى ظاهريا إلى دفع جزء كبير من التدفقات الرأسمالية الأمريكية، التي ارتفعت بصورة حادة على مدى العقدين الماضيين. ويعتقد كثيرون أن هيمنة الدولار هذه سمحت للولايات المتحدة بأن تعيش ببذخ يفوق دخلها، وتسجل عجزا كبيرا في الحساب الجاري يموله الاقتراض من بقية العالم بأسعار فائدة زهيدة. وأعربت بعض الدول الأخرى عن ضيقها من هذا "الامتياز الزائد" الذي تتمتع به الولايات المتحدة.
وعلاوة على ذلك فحقيقة أن بلدا غنيا مثل الولايات المتحدة يعد مستوردا صافيا لرأس المال من دول منخفضة الدخل مثل الصين أصبح ينظر إليه كمثال رئيس على اختلالات الحساب الجاري العالمي. فهذه التدفقات المتزايدة من رأس المال ــ خلافا لتنبؤات النماذج الاقتصادية المعيارية من أنه ينبغي أن يتدفق رأس المال من الدول الأغنى إلى الدول الأكثر فقرا ــ أدت إلى دعوات لإعادة هيكلة نظام المالية العالمي وإعادة النظر في أدوار عملات الاحتياطي المختلفة وأهميتها النسبية.
وأدت الأزمة المالية العالمية التي وقعت في الفترة 2008 ــ 2009، التي لا تزال تبعاتها تتردد في أرجاء الاقتصاد العالمي، إلى تصاعد التكهنات بشأن الزوال القريب، إن لم يكن الوشيك، للدولار كعملة العالم الأولى.
وهناك بالفعل مؤشرات على أن مكانة الدولار ينبغي أن تكون في خطر. فالولايات المتحدة تواجه مستوى مرتفعا ومتصاعدا من الدين العام، حيث ارتفع الدين العام "الحكومي الفيدرالي" إلى 16.8 تريليون دولار، أي ما يعادل تقریبا ناتج الدولة كل عام من السلع والخدمات. وأدى الاستخدام الجريء للسياسات النقدية غير التقليدية من جانب الاحتياطي الفيدرالي، والبنك المركزي الأمريكي، إلى زيادة المعروض من الدولار وإيجاد مخاطر في النظام المالي. وعلاوة على ذلك، أدى جمود الموقف السياسي إلى جعل صنع السياسة الأمريكية غير منتج لأثره، وفي بعض الحالات، يؤدي إلى نتائج عكسية في دفع التعافي الاقتصادي. وهناك أيضا مخاوف كبيرة أيضا من أن يكون تشديد المالية العامة أخيرا قد حد من قدرة الحكومة على تنفيذ الإنفاق على بنود مهمة لنمو الإنتاجية على المدى الطويل، مثل التعليم والبنية التحتية.
وكان يفترض أن تؤدي هذه العوامل كلها إلى بدء التراجع الاقتصادي في الولايات المتحدة والتعجيل بتناقص أهمية الدولار. إلا أن الحقيقة مختلفة تماما. فهيمنة الدولار كعملة احتياطي عالمية لم تكن تتأثر بالأزمة المالية العالمية. ولم يقتصر الأمر على أن حصة الدولار في احتياطيات العملات الأجنبية العالمية لم تتغير إلا بصورة طفيفة في العقد السابق على الأزمة، بل ظل ثابتا عند مستوى 62 في المائة تقريبا منذ بداية الأزمة. وبوجه عام، زاد الأجانب بصورة حادة حيازاتهم من الأصول المالية الأمريكية. فيحتفظ المستثمرون الأجانب حاليا بنحو 5.6 تريليون دولار في صورة سندات حكومية أمريكية، مقابل تريليون دولار في عام 2000. وفي الحقيقة، قام المستثمرون الأجانب، أثناء الأزمة المالية الأخيرة "منذ نهاية عام 2009" وبعدها، بشراء سندات من الخزانة الأمريكية بقيمة 3.5 تريليون دولار. وحتى مع استمرار ارتفاع مخزون الدين الفيدرالي الأمريكي، ظل المستثمرون الأجانب يزيدون باطراد حصتهم من جزء من ذلك الدين "بحوزة جهات خاصة" "لا تحوزه أجزاء أخرى من الحكومة الأمريكية أو الاحتياطي الفيدرالي". وتبلغ تلك الحصة حاليا مستوى 56 في المائة. ومعنى ذلك أنه من بعض الوجوه تعزز دور الدولار كعملة الاحتياطي المهيمنة منذ وقوع الأزمة.
كيف حدث ذلك بالتحدي لكل منطق؟ وهل هذا الوضع قابل للاستمرار؟
أحد التغيرات المدهشة التي شهدها الاقتصاد العالمي على مدى العقد ونصف العقد الماضي تزايد أهمية اقتصادات الأسواق الصاعدة. وشكلت هذه الاقتصادات، بقيادة الصين والهند، جزءا كبيرا من نمو إجمالي الناتج المحلي العالمي على مدى هذه الفترة. ومن المثير للاهتمام، أن الأزمة لم تردع هذه الاقتصادات عن السماح بقدر أكبر من حرية حركة رأس المال التمويلي عبر حدودها. وفي حين يبدو ذلك محفوفا بالمخاطر، تمكنت الأسواق الصاعدة من تعديل بنية خصومها الخارجية من الدين إلى أشكال أكثر أمانا واستقرارا من التدفقات الرأسمالية الداخلة، مثل الاستثمار الأجنبي المباشر. ولكن حتى مع تراجع قابلية تأثرها بأزمات العملات، تواجه هذه الاقتصادات أخطارا جديدة من تزايد التدفقات الرأسمالية الداخلية، بما في ذلك ارتفاع معدل التضخم ودورات الانتعاش والكساد في أسواق الأصول.
وأدت الأزمة المالية العالمية إلى زعزعة الآراء التقليدية بشأن مقدار الاحتياطيات التي يتعين أن يحتفظ بها اقتصاد لحماية نفسه من الآثار الانتشارية للأزمات العالمية. وحتى الدول التي لديها احتياطيات كبيرة وجدت أن احتياطياتها تقلصت بسرعة على مدى فترة زمنية قصيرة أثناء الأزمة مع سعيها لحماية عملاتها من الانهيار. وفقد 13 اقتصادا، قمت بدراستها، ما بين ربع وثلث مخزونها من الاحتياطي على مدی نحو ثمانية أشهر خلال أسوأ فترات الأزمة... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي