شركات الأدوية صناعة حولت المرضى إلى زبائن
أنعشت جائحة كورونا من جديد النقاش حول الصناعة الدوائية، فالصراع مع الزمن بحثا عن علاج لفيروس كورونا جعل الموضوع يتصدر عناوين نشرات الأخبار، ويغطي صفحات الجرائد، عودة رافقها سجال أماط اللثام عن حقائق لا يراد الكشف عنها حول هذه الصناعة؛ بدءا بالفلسفة التي تحكم هذه الصناعة، مرورا بالتحولات التي شهدتها عبر التاريخ، وصولا إلى مظاهر سيطرة لوبي شركات الدواء العابر للحدود على السياسة الصحية حد التحكم فيها في عديد من الدول.
تخلت الدول الكبرى بدرجات متفاوتة عن الشأن الصحي لمصلحة القطاع الخاص، فصارت صحة المواطن - تطبيبا وعلاجا - تحت رحمة الشركات التجارية، بعدما أضحت محل مضاربة ومنافسة بين شركات الأدوية، فلم تعد حكومات تلك الدول قادرة على اتخاذ خطوات جادة فيما يخص معالجة الأمراض، فقد بات قطاع صناعة الأدوية ضمن القطاعات الخمسة الأوائل في الاقتصاد العالمي من حيث القيمة الإجمالية، إلى جانب قطاعات أخرى كالنفط والأسلحة.
تفشي وباء كورونا من شأنه أن يعزز هذا الموقع، فالتوقعات تشير إلى مزيد من النمو في هذا القطاع، بفضل ضخ مزيد من رؤوس الأموال فيه، ما يجعل نسبة حجم 5 في المائة كزيادة حققها التداول في سوق الأدوية العالمية؛ ما بين عامي 2017 و2018 مرشحة للارتفاع في ظل الأوضاع العالمية، بل حتى تلك التقديرات التي كانت تتحدث قبل عام عن تضاعف ثلاثي لقيمة الصناعة الدوائية؛ المقدرة بنحو 5.4 تريليون في غضون 50 عاما المقبلة، صارت اليوم متجاوزة، بعدما فعله كورونا في الصحة العامة عالميا.
تسيطر الولايات المتحدة حاليا على السوق العالمية للدواء، حيث تستحوذ على 45 في المائة من السوق، في مقابل حصة لا تتعدى 14٫7 في المائة لخمس دول أوروبية مجتمعة "ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، وإسبانيا"، واحتفظت الصين والبرازيل بحصة تصل إلى 10٫4 في المائة، بينما تصل حصة اليابان وحدها إلى 7٫1 في المائة. لم يواكب هذا الاحتكار الأمريكي استحواذا مؤسساتيا، فمجمل عمليات الاندماج التي شهدتها صناعة الأدوية في العالم، لم تسفر عن احتكار لمجموعات واضحة، فحتى الآن لا تمثل الشركات الخمس الأولى عالميا سوى 23٫7 في المائة من إجمالي سوق الأدوية.
ينظر كثيرون إلى هذه المعطيات ببعض الرضا، فربما حال توالي المخاوف والتحذيرات دون ارتهان صحة إنسان الألفية الثالثة إلى شركة أدوية بذاتها، لكن هذا الاستنتاج في غير محله، لكونه منافيا لفلسفة الصناعة الدوائية، فالأصل في الدواء أن يعالج المريض حتى يتعافى بشكل نهائي، لا أن تحول شركات الأدوية المرضى إلى زبائن دائمين لديها، بإنتاج أدوية لا تقضي على المرض بالكامل، إنما تحافظ عليه عند مستوى معين، حتى يجبر المريض - المستهلك في عيون الشركة - مضطرا على تعاطي الدواء باستمرار.
يكفي التقليب في صفحات كتب الطب والأدوية والصيدلة عبر التاريخ للوقوف عند هذه الحقيقة، حيث كانت الأدوية المنتجة تقدم حلولا نهائيا للأمراض، وقد كان للعرب والمسلمين إسهام كبير في تطور هذه الصناعة؛ فأول تنظيم لهذه المهنة يعود إلى العصر الأموي، فيما أقر الخليفة العباسي المعتصم تأدية امتحان في الطب والصيدلة لكل راغب في مزاولة الحرفة، وأنشئت أول صيدلية في بغداد في عهد المنصور، شهدت وضع جدول صيدلاني استخدم لاحقا نموذجا لإصدار "دستور أدوية لندن الأول".
شهدت صناعة الأدوية منعطفا نوعيا، في النصف الأول من القرن الـ20، بعد التحول من أدوية بناء على تركيبات عشبية نحو أدوية تنتج في مصانع ومعامل خاصة اعتمادا على وصفات محددة، ساعد على صياغتها اكتشاف عدد من المواد الكيميائية الطبيعية التي تم تطويرها لاحقا إلى أدوية جديدة. من حينها والأبحاث على قدم وساق في هذا المجال، حتى وصلت مستوى انقلب فيه مفعولها إلى النقيض، حيث شرعت في تطوير أمراض تناسب أدويتها، كما جاء على لسان مارسيا أنجيل Marcia Angell الطبيبة والكاتبة الأمريكية، رئيسة تحرير مجلة "نيو إنجلاند الطبية" التي تتحدث في مقال لها عن أن "شركات الأدوية أتقنت في الأعوام الأخيرة طريقة جديدة وفاعلة للغاية لتوسيع أسواقها، فبدلا من تطوير أدوية لعلاج الأمراض، بدأت في تطوير أمراض تناسب أدويتها".
في السياق ذاته، يكشف الكيميائي ريتشارد سميث Richard Smith رئيس تحرير "بريتيش ميديكال جورنال"، عن أن قطاع صناعة الأدوية أفسد العلوم بتضخيم فوائد الأدوية والتقليل من حجم مساوئها، مشيرا إلى أن رواد هذه الصناعة يشترون الأطباء والجامعيين والمجلات والمنظمات وجمعيات المرضى والصحافيين.. بطرق اشتغال عصابات المافيا ذاتها، مستندا في قوله هذا إلى ما تضمنه كتاب طبيب دنماركي بعنوان "أدوية قاتلة وجريمة منظمة: كيف أفسدت المختبرات الكبرى الصحة" (2013).
وقبله كتب الفرنسي فيليب بينار Philippe pignarre عام 2003 كتاب "السر الكبير لصناعة الأدوية"، أثار جدلا كبيرا بسبب ما تضمنه من حقائق من داخل القطاع، كشفت بعض الممارسات التي تعتمدها مختبرات الأدوية للهيمنة على السوق. ويكشف كتاب "ترويج الأمراض" عن الأساليب التي تنهجها شركات الأدوية قصد إيهام الناس بمرضهم، من قبيل إقناع المريض بوجود علل ليست فيه، إلى أن يتهيأ له وجودها أو استخدام الإحصاءات بشكل انتقائي للمبالغة في فوائد العلاج، أو تقديم أعراض شائعة كأنها علامة على مرض خطير، أو الترويج للدواء بعده خاليا من أي أعراض جانبية..
حتى عهد قريب، كانت هذه الأصوات مغمورة جراء هيمنة شركات الأدوية على المشهد العام، لكن فيروس كورونا أعادها إلى الأضواء بقوة وزخم كبيرين، بعدما اكتشف الجميع أن المريض مجرد زبون أو مستهلك مضطر، وأن صحة الإنسان في أعين أصحاب هذه الشركات أضحت مجرد سلعة، تسري عليها قوانين السوق، بعيدا عن أي مبادئ أو قيم أو أخلاقيات.