السعودية وسياسة الأمن والتوازن الاقتصادي المستدام
أعلنت وزارة المالية عددا من القرارات المهمة لمعالجة الأثر المالي الذي نتج عن أزمة كورونا والهبوط في أسعار البترول على مالية الدولة.
يرى بعض المعلقين أن وزارة المالية أخذت اتجاها معاكسا لما كان متوقعا في دعم الاقتصاد المحلي من خلال زيادة الإنفاق الحكومي مثلما عملت دول أخرى وليس شدا للحزام وزيادة في ضريبة القيمة المضافة. ولا شك أن في تلك التعليقات خلطا للأوراق والمفاهيم الاقتصادية.
بداية، فإن المقارنة الصحيحة بين المملكة والدول الأخرى بما فيها الدول الأكثر تطورا في العالم خلال هذه الأزمة تكون في الإجراءات التي اتخذتها الدولة في دعم القطاع الصحي لحماية المواطنين والمقيمين وفي التسهيلات والدعم المالي الذي قامت به الدولة لحماية وظائف المواطنين في القطاعين الخاص والعام.
وبهذا المقياس سجلت المملكة نجاحات كبيرة ومتميزة في مواجهة هذه الجائحة. وبدا واضحا للجميع مدى التجاوب والتفاعل والتنسيق الكبير بين الجهات الحكومية المختصة بشكل ربما لم يحصل مثله في سابق الأزمات التي مرت على المملكة.
وفيما يتعلق بالسياسات المالية والنقدية التي قامت بها الدولة على مستوى الاقتصاد الكلي، فإن المقارنة بالدول الأخرى خاصة الدول الصناعية يعد امرا غير صحيح لاختلاف طبيعة الاقتصاد والإمكانات المالية.
فالمملكة تقارن بالدول التي تعتمد على السلع والموارد الطبيعية، وبهذا المقياس تعد المملكة ودول الخليج بشكل عام الأكثر نجاحا وازدهارا بمستويات عالية من الرفاهية لشعوبها.
يعني ذلك أن المساحة المالية Fiscal Space التي يمكن أن تتحرك فيها دول الموارد الطبيعية أقل مرونة من الدول الصناعية المتنوعة الإيرادات. وتعتمد دول الموارد الطبيعية إلى حد كبير على ما لديها من احتياطيات مالية. ولهذا فإن التوسع في الإنفاق الحكومي والاستهلاك المحلي دون مراعاة لهذا الجانب المهم يمكن أن ينتج عنه إرباك لمستوى الاستقرار المالي بما قد يضر بالمصلحة العامة للوطن والمواطن.
ومن هنا تأتي القرارات الاحترازية الأخيرة لوزارة المالية متوافقة مع طبيعة الاقتصاد السعودي وأهمية المحافظة على احتياطيات النقد الأجنبي التي تعد الحجر الأساس في مالية الدولة والاستقرار المالي في المملكة. وبالنسبة للمواطن الأهمية تكمن في المحافظة على القوة الشرائية الحقيقية الناتجة عن ثبات واستقرار سعر صرف الريال الذي يعادل في قوته الشرائية الدولار الأمريكي أقوى العملات العالمية.
ونتيجة لثبات وقوة سعر صرف الريال نرى توافر مختلف أنواع السلع في الأسواق في المملكة بأسعار تنافسية لا تختلف عن مثيلاتها في أفضل دول العالم. وهذا أهم مقياس حقيقي لمستوى الرفاهية والقوة الشرائية للمواطن في أي دولة.
ولو افترضنا أن وزارة المالية انتهجت العكس أي التوسع في الإنفاق الحكومي ولم تأخذ بالإجراءات الاحترازية المطلوبة. النتيجة ستكون إضعاف المالية العامة للدولة واحتياطيات النقد الأجنبي مما قد ينتج عنه إضرار بالاقتصاد الكلي على المديين المتوسط والبعيد وبالقدرة الشرائية للمواطن السعودي يفوق بكثير الزيادة الأخيرة في نسبة الضريبة المضافة.
خلاصة النقطتين أعلاه أن مختلف أجهزة الدولة قامت بما يجب عمله وتستحق الإشادة بجهودها المتميزة في مواجهة أزمة كورونا. وفيما يتعلق بالسياسات المالية والاقتصاد الكلي للمملكة فإن الدولة قامت من خلال وزارة المالية بما يمكن عمله للمحافظة على الاستقرار المالي للمملكة على المديين المتوسط والبعيد وهذا ما تقتضيه الحصافة المالية أخذا في الحسبان الإمكانات المتوافرة.
الإمكانات المتوافرة تعني احتياطيات الدولة من العملات العالمية الرئيسة الموجودة لدى مؤسسة النقد وصندوق الاستثمارات العامة - الصندوق السيادي السعودي. ولا شك أن الدولة متمثلة في صندوق الاستثمارات العامة ومن خلال رؤية المملكة 2030 تبذل جهودا كبيرة لتعويض الفرصة التاريخية التي فاتت على المملكة وقت الطفرة المالية والهدر المالي الكبير الذي صاحب تلك الفترة وإصرار وزارة المالية وقتها التي كانت تشرف على صندوق الاستثمارات العامة على عدم الحاجة لبناء برنامج ادخار وطني للمستقبل (الصندوق السيادي المستقل).
كانت الاستثمارات الخارجية لصندوق الاستثمارات العامة التابع لوزارة المالية وقتها مقتصرة إلى درجة كبيرة (فيما عدا شركة سنابل الصغيرة) على الشركات التنموية المشتركة بين المملكة وعدد من الدول مثل الشركة السعودية المصرية والشركة السعودية المغربية والتونسية والباكستانية وغيرها في مجال التنمية لمساعدة تلك الدول.
ويعد الادخار الوطني أو مجموع الاحتياطيات من العملات الرئيسة للدول التي تعتمد على الموارد الطبيعية كالبترول كما أشير إليه في بداية المقال بمنزلة سقف الإنفاق الحكومي على المديين المتوسط والطويل. فكلما زادت احتياطيات العملة الأجنبية، تصبح المساحة المالية Fiscal Space للدولة أكثر سعة. أي أنه يكون لدى الدولة مساحة أكبر للإنفاق العام خاصة في وقت التراجع أو الانكماش الاقتصادي Counter Cyclicality.
وهذه هي إحدى النقاط الجوهرية عن أهمية وجود صندوق سيادي يكون هدفه الادخار الوطني على المدى البعيد ويكون العائد على استثماراته الخارجية دخلا مستداما للدولة Permanent Income لتحقيق الأمن والتوازن الاقتصادي المطلوب من خلال فصل الإنفاق الحكومي من الاعتماد على دخل سلعة واحدة.
ولتحقيق المطلوب نحو إيجاد دخل مستدام للدولة على المدى البعيد من العملات الأجنبية لا بد أن يكون برنامج الاستثمار مرتبطا بضوابط في المالية العامة Fiscal Rule تحدد المصروفات الحكومية ونسبة الادخار من إيرادات البترول. ودون ذلك فإنه يصعب على الصندوق السيادي تحقيق المطلوب.
وهذا الإطار المالي المهم Fiscal Framework تم شرحه بتفصيل في مقالات سابقة عن دراسة هارفارد المعروفة في هذا المجال http://belfercenter.ksg.harvard.edu/files/Saudi.pdf.
وخلصت هذه الدراسة أيضا إلى نتيجة أنه كان بإمكان المملكة تحقيق مجموع احتياطيات 1.8 تريليون دولار بنهاية عام 2014 لو استفادت المملكة من الطفرة المالية وحدت من الهدر المالي الذي بلغ نحو تريليون دولار على مدى نحو عشرة أعوام.
تجدر الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي في مشاورات المادة الرابعة Article 4 Consultation مع المسؤولين في المملكة قبل نحو عامين قد أشاد بالتطوير الأخير الذي حدث في وزارة المالية وهيكلتها الجديدة نحو ضبط الإنفاق وأهمية أن يكون جزءا أساسيا من ذلك وجود ضوابط مالية مقننة Fiscal Rule.
ولهذا فالمؤشرات إيجابية على مستقبل واعد للمملكة في سياستها المالية الجديدة. وقد لا تكون المصاعب المالية الناتجة عن أزمة كورونا ضارة بالمملكة، بل ربما تساعد في تسريع وتقنين الأهداف والتوجهات المهمة لرؤية المملكة 2030 فيما يتعلق بتقوية مالية الدولة من خلال برنامج ادخار وطني للمستقبل، إضافة إلى تنويع الاقتصاد بما يحقق الطموحات الكبيرة للمملكة والرفاهية لشعبها.
*عمل سابقا كبيرا للمستشارين ومديرا عاما للاستثمار في مؤسسة النقد وخبيرا غير مقيم بجامعتي هارفارد وستانفورد.