الهاتف الثابت والمتغيرات .. حين تلاشت حرارة الخطوط
على مدار ثمانية عقود يتضح أن معادلة الهاتف الأرضي "الثابت" في السعودية متغيرة، فكلما زاد عدد خانات الأرقام سهل الحصول عليه، لكن الحقيقة الثابتة لمعادلة الهاتف طوال تلك الأعوام أنه شكل عاملا تنمويا وحضاريا أسس للمملكة التي باتت قادرة عن العمل عن بعد في 2020.
ويمكن القول إن الهاتف الأرضي الوالد الشرعي لأشكال متعددة من الاتصالات مرورا بالفاكس، البيجر، والهاتف المحمول المحدود بالاتصال والإرسال وصولا إلى ابتكار العصر الهاتف المحمول الذي يختزل العالم كله بين يديك.
وخلال عقود كانت تسير السعودية تنمويا بسرعة لا تقل عن ظهور الابتكارات الاتصالية التي ساعدت في ربط بلاد مساحتها تصل إلى 2.5 مليون متر مربع.
والحصول على خط هاتف أرضي "ثابت" كان أشبه بالحلم من جانب، ورحلة شاقة من جانب آخر، بينما في العصر الراهن بات الحصول على اختراع ألكسندر جراهام بل في سهولة شراء قنينة ماء، أو أسهل.
فبمجرد مكالمة هاتفية واحدة على الرقم 900، أو زيارة أقرب سوق تجاري حيث تتوافر مكاتب خدمات لشركات الاتصالات، يمكن الخدمة في غضون 24 ساعة.
«الاقتصادية» عبر ثلاث حلقات توثق قصة الاتصالات في السعودية بدءا من الهاتف الثابت مرورا بالفاكس والبيجر وكبائن الاتصالات وصولا للهاتف المحمول من زمان "نص من الرسالة مفقود" حتى عصر "العالم بين يديك".. والبداية من الحاضر الغائب الهاتف الثابت كما يسميه السعوديون، الذي بدأت حرارة خطوطه تتلاشى.
البداية: 854 خط هاتف
ومن بداية لا تتجاوز 854 خط هاتف أرضي، موزعة بين الرياض، الطائف، مكة، جدة، والمدينة المنورة في عام 1934، انتقلت خطوط الهاتف إلى مرحلة التكاثر والتوسع والتنوع.
وارتفعت في عام 1949، لتصل إلى 8000 خط، وفي عام 1968 بلغت عدد الخطوط 93000 خط موزعة على عشرة مدن رئيسة، وفي 1975 بلغت 130 ألف خط.
وشهدت التسعينيات الميلادية ارتفاع أعداد خطوط الهاتف إلى نحو 4.5 ملايين خط هاتف، ويعد الأعلى في تاريخ الهاتف الأرضي.
أعوام الانتظار والحفر
من يرغب في اقتنائه لا بد له من خوض رحلة شاقة وطويلة تستمر لأعوام لكي يظفروا بالهاتف الموعود، الذي جعلهم يتزاحمون من قبل الفجر في انتظار افتتاح مكاتب البرق والبريد والهاتف صباحا للتقديم عليه وتحمل أرقام الانتظار التي تتجاوز الآلاف للحصول عليه مرورا بحفرياته التي لا تنتهي، وانتهاء بموعد موظف الهاتف الذي لا بد أن تتحمل مزاجيته ومواعيده، حيث كان رؤيته بمنزلة الحلم.
ويوضح عبدالملك الجندل، وهو مؤرخ وصاحب متحف خاص بتوثيق مراحل الاتصالات في السعودية، أن الحصول على الهاتف الثابت قبل أكثر من 60 عاما أشبه بالحلم، منوها إلى أن من يرغب في التقديم على الهاتف لا بد له من الصبر لأعوام لكي يحظى بالهاتف.
ويقول الجندل إن الانتظار كان يمتد لأكثر من ثلاثة أعوام للحصول على الهاتف في منزلهم في شارع الخزان وسط الرياض، حيث يعد نفسه من المحظوظين لأنه لم ينتظر أكثر من هذه المدة، منوها بأن رسوم التقديم مع الحصول على هاتف "أبو قرص" يقدر بنحو 250 ريالا.
ويستذكر تلك المرحلة وفرحة الأسرة حين دخول الضيف الكبير "الهاتف" للمنزل، حيث كانوا يتباشرون بتركيب الهاتف، مشيرا إلى أن البعض يقيم وليمة بهذه المناسبة، حيث كان الجيران يتوددون لصاحب المنزل الذي يوجد به هاتف ليسمح لهم بإجراء الاتصالات.
ويوضح أن من معاناة تلك المرحلة في تركيب الهاتف عدم السماح بتركيب أكثر من خط في منزل واحد مهما كانت مساحة البيت، حيث يخرج مهندس من الهاتف للتأكد من عدم وجود تلفون. ويستذكر موقفا له حينما رفض المهندس تركيب الجهاز لمنزله الذي يسكن فيه بحجة رؤيته لهاتف في منزله سحبه من والده الذي يسكن فيه.
وأشار إلى من مهام المهندس الذي يحضر للمنزل التجول في البيت والتأكد أنه لا يوجد هاتف آخر، حيث إذا اكتشف المهندس أن هناك هاتفا في المنزل يتم إلغاء الطلب.
وزاد "عندما تقدمت للهاتف، وحضر المهندس للكشف، وجد أن الدورين فيهما هاتف، فشرحت له الأمر أن الأرضي عائلة والأول عائلة أخرى، ورفض، وتم التقديم مرة أخرى، وخرج المهندس، لكن في هذه المرة تم فصل الدورين، وإيجاد مطبخ لكل دور، وعند ذلك اقتنع المهندس فوقع على إدخال الهاتف، وتم توصيل الهاتف".
وقال إن صاحب منزل آخر اضطر إلى التحايل وبناء جدار يفصل بين الدورين، وتجهيز مطبخ صوري، حتى يتأكد المهندس أن الدورين منفصلان.
سوق سوداء
ويتحدث الجندل عن نشوء سوق سوداء بسبب ندرة خطوط الهاتف في المملكة، وفي الرياض بشكل خاص، مبنيا بأنه حضر مزادا على بيع أحد أرقام الهاتف الثابت في شارع الخزان في نهاية التسعينيات الهجرية وصل سعره لما يقارب 40 ألف ريال.
ولفت إلى أن وجود هاتف أرضي كان أحد المغريات والمحفزات لتأجير المنازل، حيث يتسابق بالسكن في المنزل الذي يوجد به هاتف أرضي.
بدوره يوثق ماهر البواردي أحد من عاش تلك المرحلة بكتاباته ذكرياته للسبعينيات الميلادية في مدينة الخبر شرق السعودية حيث تم تركيب أول هاتف له مكون من خمسة أرقام.
ويقول "تم تركيب الهاتف في منزلنا ورقمه لا يزال في ذاكرتي مكونا من خمس أرقام، حيث كان لون الجهاز أخضر به قرص عليه كل الأرقام ونديرها رقما بعد رقم حسب رقم الهاتف المراد الاتصال به، وكنا نجيب المتصل بكلمة (ألو) وهي معربة من الكلمة الإنجليزية hello.
ويشير البواردي إلى أنه في نهاية السبعينيات تم إضافة رقمين قبل رقم الهواتف لتصبح سبع خانات، مبينا أن دليل الهاتف كان تحت جهاز الهاتف في الأغلب وسهل تصفحه، حيث كان يوزع مجانا.
ويبين البواردي أن عام 1980 شهد ظهور الهواتف ذات الأزرار بنغماتها المعروفة الآن وانتهى زمن هاتف القرص، منوها إلى أن المكالمات في داخل المدينة الواحدة دون استخدام مفتاح المنطقة مجانية، والدقيقة للرياض كانت ١.٢ ريال والى جدة ١.٥ ريال.. حتى عام ١٩٨٥، وأنه مع انخفاض موارد الدولة من البترول أصبحت المكالمات المحلية برسوم حيث تكلفة الساعة بريال واحد.
ارفع السماعة ومعروض للإمارة
ليس من المبالغة القول إن المنازل السعودية رغم اختلاف جغرافيتها وطباع ساكنيها، توحدت على طريقة محددة لمواجهة الإزعاج من الاتصالات مجهولة المصدر في زمن يسبق ظهور "الكاشف".
يقول البواردي "كنا نضطر لرفع معروض للإمارة، ومنها يتم تحويله للشرطة ثم يتحول للوزارة ليتم رصد المكالمات ومعرفة الشخص المزعج، لكنهم لا يبلغوك بذلك، بل نعرف إذا تم القبض عليه بعد توقف الازعاجات".
وأضاف "أحيانا كنا نرفع السماعة في حال تلقينا إزعاجات متكررة ولا نرغب في الشكوى لطول مشوارها، ومن الطبيعي أن يأتيك اتصالات تسمع من خلالها أغاني أو أصوات همهمة.. المهم أن الهاتف كان على ما يبدو مصدر ترفيه لبعضهم".
طوابير للتسديد
يتحدث إبراهيم العبدالعزيز بذكرياته إلى تلك الصفوف الطويلة التي يصطفون فيها في مكاتب مخصصة تابعة لوزارة البرق والبريد والهاتف لتسديد فواتير هواتفهم، وذلك قبل تحويله إلى البنوك.
وقال العبدالعزيز من أهمية جهاز الهاتف أن البعض يضعه في صندوق خشبي صمم له حتى يصبح للاستقبال فقط، ويتم إغلاق لوحة الأرقام، وإمكانية رفع السماعة للرد، وأنه لا يسمح بالاتصال إلا عند من يملك "مفتاح القفل".
"ما له صوت في البيت"
عبارة تكشف عن علاقة حميمة بين السعوديين وهواتفهم الثابتة حينما يفتقدون لرنين جرسه خلال أوقات متفاوتة من اليوم، مطالبين أبناءهم بالتحقق من وجود الحرارة فيه، حيث يتسابق أفراد العائلة ويتهافتون للاطمئنان علي أن قيد الخدمة.
وبعد أن كان الهاتف الثابت في تلك المرحلة يتصدر المجالس ويرفع في مكان آمن في المنزل يليق به، حيث يعد وجود الهاتف ضرورة لسماع أخبار الأقارب والأصدقاء والاطمئنان عليهم، فهو يقرب البعيد، حيث كان أفراد يتسابقون للرد على الهاتف عندما يصدح صوت رنينه المتقطع في أرجاء المنزل.
ولم يتبق من تلك الحقبة في مطلع العقد الجديد من الألفية الثانية إلا أثر في جدران المنازل حيث القابس.
في المكتب صامد
رغم الأعداد الكبيرة لخطوط الهاتف الثابت الصادرة في بدايات القرن الـ20، إلا أن بداية النهاية انطلقت مع العقد الثاني من الألفية الثانية جراء انتشار الأجهزة اللوحية بأنواعها المختلفة. وبقي الهاتف الثابت محافظا على وجوده في مقار العمل والمكاتب ولو إلى حين، بينما لم يعد له حضور يذكر في المنازل.
وبعد أن كان الهاتف يستحوذ على نحو 73 في المائة من إجمالي خدمات الاتصالات الصوتية الثابتة في نهاية عام 2009 بوجود أكثر من ثلاثة ملايين خط سكني، أصبح لا يتجاوز 1.72 مليون اشتراك للقطاع السكني بنهاية عام 2018 - بحسب إحصائية رسمية.
86 عاما على التدشين .. والملك عبدالعزيز يتغلب على معارضيه
منذ تأسيس المملكة أو حتى قبل اكتمال تأسيسها، حرص الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على إدخال شبكات الاتصال المتاحة في دولته الناشئة السعودية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وتحديدا في عام 1931وتعميمها على مختلف المناطق، على الرغم من المواجهة والمعارضة الشديدتين من بعض الجهات فيما يخص إدخال اللاسلكي والهاتف للمملكة، لكن الحاجة الضرورية لهذه الوسائل جعلت الملك يعقد العزم على إدخالها. ونجح باني هذا الكيان العملاق، الملك المؤسس بحكمته ودهائه وحزمه، فـي احتواء نزعة الرفض التي استقبلت بها وسائل التواصل الأولى، وذلك بإيجاد قدر من الألفة مع من أنكرها، وأنها لا تعمل من قبل اللجان، بل بتقنية أبدعتها عبقرية الإنسان. فكانت بداية تلك الرحلة الطويلة العامرة ببناء أول برج للبرقية. وشهد عام 1934 في المملكة تدشين أول هاتف أرضي. وكان المؤسس مؤمن بأهمية البريد والاتصالات وضرورة الإفادة من المخترعات الحديثة في هذا المجال؛ لربط مناطق المملكة المترامية الأطراف، التي تفصل بينها المسافات الشاسعة، فصدرت أوامره في عام 1345هـ بإنشاء مديرية البرق والبريد والهاتف وربطت بالنيابة العامة تحت مظلة الأمور الداخلية، وأنيط بالإدارة الجديدة العناية بمختلف خدمات البريد والاتصالات. وقد استمر الاهتمام والدعم لهذه الخدمات من قبل المسؤولين في المملكة، ففي عام 1353هـ تم تأمين 22 محطة لاسلكية لربط 22 مدينة وقرية في المملكة بالخدمات البرقية.
"أبو هندل".. أول جهاز هاتف في ذاكرة السعوديين
"يا حسين قم دور الهندل - نبغى نكلم على الديرة" "أبو هندل" الذي يبحث عنه الشاعر ليس شخصا، بل أول أجهزة الهاتف التي استوردت من الخارج في تلك المرحلة، حيث كان من نوع الهاتف المزود بقرص تتوزع الأرقام دائري حوله، إذ كان وجوده في المنزل دلالة على الوجاهة. والاتصالات عبر "أبو هندل" كانت لا تتم إلا بالاتصال على موظفي الاستعلامات الذين يعملون بدورهم في الاتصال بمن تطلبه ثم يتصلون بك ليوصلوك بمن طلبته. وبالرغم من تعدد الخطوات لاستخدام هاتف "أبو هندل" الذي يشترط توفر الجهاز في بيت المتصل والمستقبل على حد سواء، إلا أنه كان حدثا عظيما في ذلك الوقت، حيث يقرب البعيد وينقل صوت الأهل والأصحاب وتوارث هاتف "أبو قرص" مهمة أبو هندل، حيث أدهش الجميع بطلته الجميلة وبصوت دوران قرصه الشجي عند طلب الاتصال بالرقم المطلوب. أما التلفون "ذو الأزرار"، فقد كان بمنزلة نقلة نوعية في حينها لتطور التقنيات.