الأمن الحيوي بين الإفراط والتفريط
الأمن الحيوي إجراء يحمي الاقتصاد والطبيعة وصحة الإنسان من الآفات والأمراض. وهو مجموعة من الأنظمة والإجراءات التي تتخذها الدول لمحاولة منع وصول الآفات والأمراض السائدة في أماكن متعددة أو آفات وجوائح جديدة، ومساعي السيطرة على تفشي الأمراض في حال حدوث ذلك. من هذا الجانب تتبين أهمية العناية بمفهوم الأمن الحيوي وتفهم ضرورة تطبيقه على أرض الواقع.
إن تفشي وباء جديد شديد الضراوة مثلا في بلد منتج للدواجن أو الأبقار أو الأسماك أو الروبيان أو حتى نباتات مثل البطاطس أو النخيل ينتج عنه خسائر كبيرة للبلاد التي ينتشر بها ويؤثر في اقتصاداتها وصادراتها وتركيبتها الإنتاجية وقد تتحول لدولة مستوردة بعد أن كانت دولة مصدرة، كما قد يستوطن المرض أو الوباء في البلاد ويكلف ملايين لمكافحته والتقليل من آثاره، مثل: سوسة النخيل الحمراء أو إنفلونزا الطيور، هذا في مجال الغذاء والإنتاج، أما في الجانب البشري فها نحن نعيش جائحة فيروس كورونا، وكم الخسائر البشرية والاقتصادية والجهود والإجراءات التي تتخذها الدول لمنع أو الحد من تفشي الوباء، كما أن بعض أمراض الحيوان الحديثة قد تنتقل إلى الإنسان، مرض إنفلونزا الطيور ومتلازمة الجهاز التنفسي الحادة SARS، وفيروس نيبا Nipah virus من شأنها أن تضر بقطاعات الصحة والتعليم والضيافة والسياحة والسفر والاستثمارات التجارية. وتقدر التكلفة السنوية لمكافحة آفات وأمراض النباتات ما بين 700 مليون وملياري دولار.
لكن عجلة إنتاج الغذاء لا بد أن تسير بشكل متسارع يتناسب واحتياجات البشرية التي تزداد بطريقة تفوق قدرات موارد الغذاء التقليدية على العطاء، فأصبح لازما على الدول والمختصين بالإنتاج بها إدراك مسؤولية توفير الغذاء لشعوب الأرض، بل توفيره بطرق مستدامة وجودة عالية مع مراعاة تقليل أي آثار سلبية قد تكون حادة في نقل الأنواع والسلالات النباتية والحيوانية.
إن الإفراط في حماية البيئة بحجة استخدام السلالات المحلية رغم ضعف أدائها وتدني إنتاجيتها وعدم وضعها في برامج يؤمل منها تطوير لهذه السلالات، ينطوي عليه خسائر اقتصادية فادحة للاقتصاد المحلي باستيراد الغذاء من الخارج، كما يعرض المجتمع لمخاطر ندرة ونفاد الغذاء في الظروف الحرجة للاحتياج، ويعطل الطاقات الإنتاجية المحلية والدورة الاقتصادية بشكل شامل.
إذا نظرنا مثلا إلى زراعة الحبوب وعلى رأسها القمح لإنتاج رغيف الخبز، فإن الصنفين اللذين يتم إنتاجهما في المملكة بشكل تجاري قديما وحديثا، هما صنفان تم إدخالهما للمملكة “يوكوروجو” للمناطق المعتدلة لدرجة الحرارة في وادي الدواسر وحرض والقصيم، بينما منطقة الحدود الشمالية وتبوك وحائل يناسبها صنف “وست بيرد”، وتصل إنتاجيتهما إلى ثمانية أطنان في الهكتار ولا تشكل إنتاجية أصنافنا المحلية نسبة 1 في المائة، مثل: اللقيمي والصما والطيارة والحب، وهي من أقماح الديورم.
وكذلك سلالات الأبقار، فإن الأصناف السائدة حاليا للإنتاج تم إدخالها للمملكة مبكرا، وأصبحت هي الرائدة لصناعة الألبان في المملكة، وأشهرها ثلاثة أصناف “الفريزيان والهولستاين - الأسود ببقع بيضا - والجيرسي - البني”، وتبلغ إنتاجيتهما اليومية للبقرة 41 لترا من الحليب، بينما أبقارنا المحلية لا تتجاوز أفضلها إنتاجا أربعة لترات.
ومثل ذلك يقال على الدواجن لإنتاج اللحم أو البيض، وكذلك الروبيان والأسماك فجميعها أصناف استقدمت للإنتاج من بيئات مختلفة تماما عن بيئة المملكة، ومثلها كثير في الخضراوات والفواكه، وكان لها الأثر في النهضة الزراعية والإنتاج المحلي في المملكة، وتمثل عموده الفقري، ولو بقيت المملكة تعتمد فقط على أصنافها المحلية بحجة الأمن الحيوي لما أصبحنا دولة منتجة للغذاء، ولأصبح الوضع صعبا جدا، وهذا لا يعني عدم الاهتمام والعناية بالأصناف المحلية وتطويرها وتهجينها، بل حتى هندستها وراثيا، فهذه أهداف ستبقى حلما أظن أننا لا نزال في الخطوة الأولى لتحقيقه.
من الأسباب الرئيسة في نظري لتدني الإنتاج السمكي في المملكة التأخر والتردد، اللذان لا يزالان، في إدخال الأصناف الجيدة للإنتاج طمعا في تطوير أصناف محلية، وإذا نظرنا إلى التركيبة الإنتاجية لقطاع الأحياء المائية المستزرعة سنجدها دون استثناء أصنافا مستوردة، فالروبيان من نوع فانامي موطنه الأصلي أمريكا الجنوبية ولدينا ثلاثة أصناف أسماك مستزرعة منها القاروص الآسيوي مستورد من تايلاند والباس والبريم الأوروبي فقط، بينما دول كثيرة تنتج عشرات الأصناف الأخرى من الأسماك بطرق تجارية مثل عدة فصائل من الهامور والحمراء والسنابر والتراوت والعربي والصافي وأنواع من التونة والصخلة “الكوبيا”، وكثير من هذه الأصناف محلية أيضا لكنها لم تخضع للاستزراع بعد، ولا تتوافر لها مفرخات محلية ولا يسمح باستيرادها.