الإسكانات الخيرية .. عمل جليل بلا تنمية
يشكل المسكن للإنسان في كل مكان أهمية كبرى، وقد أكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - في أكثر من مناسبة أن "توفير السكن الملائم للمواطنين وأسباب الحياة الكريمة من أولوياتنا، ومحل اهتمامي الشخصي"، وما صدر أخيرا، من تنظيمات وقرارات تصب في هذا الاتجاه، وما اعتمدت له من ميزانيات ضخمة دلالة على حرص الدولة على هذا الملف.
وتحظى بلادنا بعديد من المؤسسات والأوقاف الخيرية والأفراد ممن يسعون إلى توفير المساكن لبعض الفئات المحتاجة، خاصة في بعض "المناطق النائية والسواحل البحرية"، وممن يتطلب حصولهم على السكن الحكومي بعض الوقت، ولذلك شيدت عديد من الأوقاف وآثارها في أرض الواقع ملموسة وانتفع بها خلق كثير.
لكن بعض هذه النجاحات يشوبها النقص، ولا سيما وهي ترفع شعار التنمية المرتبطة بالسكن في مسمياتها، ولا شك أن التنمية مكون رئيس لأي تجمع سكاني، فإذا رأيت المجمعات السكنية وشبه المدن الصغيرة، التي شيدت هذه الأوقاف - مثلا - في ديحمة جنوب جازان أو الشقيق في عسير والغالة شمال الليث أو الشبعان والحسي في أملج والنباه في المدينة المنورة وفي الطرف في الأحساء وغزالة في منطقة حائل، وغيرها، تجد أنها قرى صغيرة فيها خدمات جيدة وحضرية للإقامة فيها، ويسكنها كثافات بشرية ليست قليلة. فمثلا، قرية الطرف السكنية شرق الهفوف يسكنها سبعة آلاف نسمة، واعتنت كثيرا هذه المؤسسات الخيرية والمحسنين بهذه التجمعات السكانية في إنشاء مساكن حديثة مؤثثة وتزويدها بالخدمات الأساسية، كالطرق والكهرباء والمياه والخدمات الصحية والتعليمية، لكن لا توجد في هذه القرى حقيقة "التنمية".
التنمية هي مصدر الدخل للأفراد وتفعيل دورهم في مجتمعهم ومساعدة المحتاج كي يساعد نفسه، وإذا نظرت إلى حال هؤلاء القاطنين في القرى قبل سكنهم فيها، تجدهم متفرقين في الأودية والجبال والسواحل البحرية، يتكسبون من مصادر دخل متعددة، مثل الرعي وتربية المواشي وصيد الأسماك والاحتطاب وأنشطة حرفية منبثقة من هذه المهن، مثل غزل الصوف وتصنيع الألبان والإقط والدهن ومناحل العسل وجمع زهور الفل، وغيرها، وكانت مساكنهم المتواضعة بجوار مصادر دخلهم والإشراف عليها من قرب. صحيح أن لديهم معاناة في توافر بعض الخدمات الحديثة للحياة المدنية، لكنهم يجيدون هذه المهن، وهي عملهم الذي توارثوه عن أسلافهم ويكفيهم ولو جزئيا عن الحاجة إلى الآخرين.
وعند انتقالهم من هذه الأودية والجبال والسواحل إلى هذه القرى الحديثة والحياة الأكثر مدنية، انقطع عنهم دخلهم ومصدر رزقهم، وعد بعضهم البقاء في هذه المساكن الحضرية قطعا لمهنهم التي يجيدونها واعتادوا عليها، ولم يتوافر لهم البديل، وبعضهم بعد مدة أدرك هذه المشكلة وسلم مفاتيح هذه المساكن لإدارات هذه المجمعات الخيرية وعاد إلى مسكنه السابق.
وطالما أن الجانب التنموي - حقيقة - مفقودة في هذه التجمعات، الذي يعد القاطنون فيها ثروة بشرية، رجالا ونساء، وهم بحاجة إلى موارد مالية للعيش في هذه القرى باستدامة. فلماذا لا يوجد مراكز تدريب لتقديم دورات قصيرة مثل دورات الخياطة، وعن بعض الصناعات اليدوية والحاسب الآلي وبرامج التصميم والتسويق الإلكتروني، وخطط ابتعاث داخلي ليس للدراسة في الجامعات، بل في المراكز المهنية لتعلم الحدادة والميكانيكا والنجارة وغيرها، وتخصيص مساحة أرض في كل تجمع في هذه القرى لممارسة أنشطة تجارية تستهدف تشغيلهم والاستفادة من طاقاتهم المعطلة في إنشاء مشاريع تعبئة المواد الغذائية "بهارات، ومكسرات، ولوازم قهوة، وعبوات صغيرة للسكر والرز والبقوليات وغيرها"، وورش تؤجر عليهم بالآجل لممارسة هذه النشاطات. وكذلك التخطيط لإنشاء مشاريع سمكية بحرية كبيرة من الشركات ورجال الأعمال أمام هذه القرى واستهداف قاطنيها بالعمل فيها، وتصنيعهم منتجاتها، وتأجير ذوي القدرات منهم أجزاء من هذه المشاريع، وتزويدهم بمستلزمات الإنتاج، وأخذ منتجاتهم إلى الأسواق المحلية والعالمية بما يعود عليهم وعلى المستثمرين بالفائدة.
هذه المقترحات لا تقدح في الجهود الكبيرة والعمل المتقن الذي قامت وتقوم به هذه المؤسسات الخيرية والأفراد المحتسبون ضمن هذه التجمعات السكنية، خاصة التعليم والرعاية الصحية والنقل المدرسي للمدن الكبيرة المجاورة، والأثر الإيجابي الاجتماعي في توطينهم واستقرارهم، ونشوء علاقات أسرية ومناشط اجتماعية في المساجد والجمع والأعياد، وهو أيضا ما استقطب بعض المستثمرين لفتح محلات تجارية وخدمية ومصارف بنكية في هذه التجمعات، وهو عمل جليل لا يمكن تجاهله، لكن المسؤولية الاجتماعية تجاه هذه المجتمعات الصغيرة، ينبغي أن تتجاوز توفير عنصر مهم، وهو السكن إلى وجود مناشط تنموية تجعل من هذه القرى تجمعات منتجة تسهم في النهضة الشاملة التي تشهدها مملكتنا، ويشعر سكانها أنهم أعضاء منتجون تجاوزوا حالة العوز والحاجة وأصبحوا قادرين على تأمين متطلباتهم الحياتية، لهم ولأسرهم.