التنمية المستدامة في المناطق الساحلية
تمثل التنمية المستدامة النشاطات التطويرية التي تتم على الأرض سواء في المدن أو القرى والمجتمعات، وكذلك الأعمال الصناعية والتجارية والحرفية والزراعية بضوابط تتضمن تلبية الاحتياجات الحالية لهذه المجتمعات مع الاحتفاظ بحقوق الأجيال المستقبلية المقبلة وقدرة هذه الموارد على تلبية احتياجاتهم دون تناقص غير قابل للتعويض.
وعادة تعد المناطق الساحلية الأكثر احتياجا، وتعد بيئاتها الأكثر هشاشة في مواردها البيئية حيث تتضاءل جودة التربة الصالحة للزراعة وتزداد الأراضي القلوية والملحية السبخية، كما أن الموارد السمكية بالسواحل تعاني الضعف والتناقص المستمر لمخزوناتها السمكية، ولم تعد موردا خاصا بالمجتمعات الساحلية أو مقصورة عليهم بل كثير من نشاطات الصيد لهذه الموارد تعمل لمصلحة مستثمرين وتجار استقطبتهم هذه الثروة ويسهمون في استنزافها في كل مكان عند غياب أو ضعف التشريعات المحلية.
لقد حقق العالم مكتسبات مذهلة في التنمية البشرية عموما وفق تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 1919 في العقدين الماضيين، ما أسهم في تقليص معدلات الفقر في المناطق الساحلية وتحسنت إمكانية الحصول على التعليم وبعض الخدمات الصحية وتمكين العمل للجنسين، ما أسهم في تحسين سبل العيش بهذه المناطق، وتبقى الضرورة ملحة لتشجيع مفهوم التنمية المستدامة عموما، وفي المناطق الساحلية خصوصا ودعم مقومات هذه الاستدامة ودفع المخاطر التي تواجهها.
وحيث تعد البحار من أهم الموارد في المناطق الساحلية، بل أصبحت هي شريان الحياة لكثير من المجتمعات الحضرية وتتضمن معظم النشاطات الحياتية بها وعلى سواحلها، وأصبحت تسهم مساهمة كبيرة في التنمية البشرية بما في ذلك توفير الأمن الغذائي والمواصلات وإمدادات الطاقة والمياه المحلاة والسياحة والصناعة، إضافة إلى أهم خدمات النظام الإيكولوجي لكوكب الأرض الذي أشار إليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في كلمته الضافية في مؤتمر قمة العشرين في الرياض وهي، تدوير الكربون والمغذيات وتنظيم المناخ، وإنتاج الأوكسجين، حيث تسهم البحار والمحيطات بنحو ثلاثة تريليونات دولار سنويا في اقتصاد السوق العالمية.
وتسهم مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية بـ 100 مليار دولار دخل سنويا وبنحو 260 مليون فرصة عمل، وتشكل النساء 47 في المائة من إجمالي قوة العمل المعتمدة على الصيد والاستزراع بما في ذلك خدمات ما بعد الحصاد، كما أن الشحن البحري الدولي ينقل أكثر من 90 في المائة من التجارة الدولية وتقدر قيمة هذا القطاع بـ 435 مليار دولار سنويا، ويوفر 13.5 مليون فرصة عمل، ويتم إنتاج نحو 30 في المائة من النفط في العالم من السواحل والبحار والمحيطات، وتقدر قيمتها بـ 900 مليار دولار سنويا وتشهد نموا سنويا أيضا. وتمثل السياحة في المناطق الساحلية 5 في المائة من إجمالي الناتج العالمي ونحو 6 في المائة من فرص العمل وتقدر قيمتها بـ 271 مليار دولار. وتتعرض المناطق الساحلية عموما لبعض القصور في الخدمات والممارسات التي تضعف استدامتها وتهدد مواردها المشار لبعضها أعلاه ومن ذلك نشاطات الصيد المفرط وارتفاع معدلات التلوث، خاصة الصرف الصناعي غير المعالج والنفايات البلاستيكية والزجاجية بطيئة التحلل والاستخدامات المفرطة للتبريد بمياه البحر في المدن الصناعية وأعمال التجريف والردم للسواحل والنباتات البحرية التي تشكل حلقة في سلسلة تكاثر الأحياء البحرية، وتقدر تقارير منظمة الأغذية والزراعة "فاو" أن 80 في المائة من الأرصدة السمكية الطبيعية مستغلة استغلالا تاما، وبعضها تجاوز حد الإفراط، وأنها في طور الانهيار وستحتاج إلى أعوام وقرون طويلة للتعافي، كما تضيف مياه التوازن في سفن النقل البحري، خاصة ناقلات النفط عبئا ثقيلا على سلامة البحار والمحيطات، وكذلك التلوث بفعل أخطاء في نشاطات التعبئة والتفريغ لناقلات النفط، وتسهم جميعا في ازدياد تراكمي للهيدروكربونات الملوثة للمياه البحرية وتسببت في انحسار الشعب المرجانية بطيئة النمو، ويقدر نمو بعضها واحد سنتيمتر سنويا واتساع ظاهرة وموت هذه الشعاب فيما يعرف بظاهرة بابيضاض الشعاب المرجانية Bleached Coral وتراكم المواد السامة في أنسجة الأسماك والأحياء المائية، خاصة القشريات والرخويات التي لا تمتلك المقدرة على النزوح السريع من مناطق التلوث، وهو الأمر الذي يتطلب التقليل من هذه الضغوط البيئية على المجتمعات الساحلية لاستدامة مواردها، ومن ذلك ضرورة وجود حلول عملية وملزمة لمشكلة مياه التوازن في السفن، خاصة في المياه الإقليمية للمملكة وتعزيز الوصول لاتفاقية دولية في ذلك، واستيعاب تكلفة ضرر الملوثات للأنظمة الإيكولوجية المائية، خاصة مياه الصرف غير المعالجة، واستيعاب التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للصيد المفرط، وضرورة التحول إلى إدارة مستدامة لمصايد ومزارع الأسماك، واستيعاب تكاليف التدوير الفعال للمخلفات البلاستيكية، وتقليل الانبعاثات الكربونية المسببة لتحميض البحار بتعزيز التقنيات الحديثة التي تسهم في ذلك. إن تحقيق تنمية مستدامة للمناطق الساحلية تتطلب جملة من القرارات، تشمل مراجعة الأنظمة والتشريعات المعنية بالمدن والقرى والبلدات الساحلية وإعطاءها بعض الأولويات والاستثناءات في التخطيط، مقارنة بالمدن نظرا لمحدودية الموارد المتاحة فيها وفرص العمل والحد من هجرة قاطنيها إلى المدن الكبيرة، وما ينطوي على ذلك من سلبيات على هذه المناطق الساحلية والمدن معا، ومن هذه الأولويات: مراجعة الهيكل العمراني والاقتصادي فيها، وتفعيل أكبر لدور الصناديق العقارية والتجارية والصناعية في تهيئة المساكن المناسبة، ورفع أسقف الإقراض بما يتناسب مع تكلفة جلب مواد البناء، وتوافر خدمات المقاولين مع مراعاة جمال وبقاء التراث المعماري القديم بهذه المناطق كعوامل جذب سياحية وثروة تاريخية وثقافية، والمتجول في هذه القرى في المملكة، يلاحظ هذه الثروة التراثية الكبيرة والمهملة في أغلب المناطق، وتشجيع إنشاء المصانع والنشاطات التجارية في هذه القرى، وتحسين حالة الطرق والاتصالات والبنى التحتية كالكهرباء والمياه الصالحة للشرب. تشجيع إنشاء الجمعيات التعاونية والخيرية والشركات بين أفراد قاطني السواحل وتسهيل وتبسيط إجراءاتها ودعمها فنيا وماديا. إعادة إحياء الصناعات والحرف والمهن اليدوية والحرفية والأسر المنتجة. تنشيط دور مراكز التدريب في تلمس حاجة أهالي هذه المناطق وإعداد حقائب تدريبية تلبي احتياجاتهم وتشجيعهم للاستفادة من هذه الخدمات واستخدام التقنيات الحديثة في إيصال هذه الخدمات التدريبية. توسيع النشاطات السياحية والترفيهية المرتبطة بالبحر وإنشاء المنتجعات السياحية والمتاحف المائية، وتطوير بعض المساكن الحالية القديمة كنزل بيئية للإقامة والتنزه وإنشاء بجوارها المطاعم والمقاهي. تطوير الموانئ بهذه القرى والبلدات لتكون مناطق جذب للفعاليات والرحلات البحرية وتزويدها بالخدمات - تأجير القوارب والدراجات البحرية. تبني برامج تعريفية إعلامية بقنوات عدة تهدف للتعريف بهذه المناطق ومقوماتها الطبيعية. ولا يخفى ما سيحدثه ذلك من حراك اقتصادي واجتماعي، وما سيوفر من وظائف لأهالي هذه المناطق الساحلية ويربط أبناءهم بذويهم ويحد هجرتهم منها للبحث عن فرص العمل.