تمويل الأوقاف .. مقترحات للتطوير
الوقف لغة: الحبس، وخلاصة التعريف المشهور في الاصطلاح الفقهي أنه "تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة". والتسبيل إتاحة الاستفادة من منفعة يولدها الأصل الموقوف. جوهر مساهمة الأوقاف ينبع من كون الوقف يعمل على تضحية باستهلاك وقتي لتحقيق منفعة مستمرة. ذلك أنه عملية تحويل للمال من حالة تحفز على استهلاكه إلى أصول تبقى لتعطي ريعا أو منفعة عامة، فهي بهذا توفر تكاليف على المجتمع وتسهم في دعم المالية العامة. باختصار، الوقف يوفر منفعة دائمة أو في حكم الدائمة، فهو بهذا يسهم في العملية التنموية.
كان الوقف عبر العصور الإسلامية عاملا مهما في بناء ثروات معمرة تستهدف تمويل جزء معتبر من تكاليف الدفاع والتعليم والصحة وخدمات معيشية عامة وخاصة وأوجه أخرى كثيرة. لكن هذا الوضع اضمحل مع الوقت بصورة واضحة. وتبعا فإن مساهمة الأوقاف في الاقتصاد والناتج المحلي ضعيفة جدا. كان لاعتمادنا نحن العرب والمسلمين المبالغ فيه على الغرب في تطوير أوطاننا دور في هذا الضعف. والمرجو السعي نحو زيادة مساهمة الأوقاف أضعافا مضاعفة. تحقيق ذلك مفيد جدا للتنمية وللمالية العامة ولرفع مستويات المعيشة الشخصية ولأوجه عديدة من المنافع العامة.
يمكن تقسيم الأوقاف من حيث العائد إلى ثلاثة أنواع: الأول وقف له عوائد كلها أو بعضها للأهل والذرية. وحدث هذا في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وهو نوع من البر حسب الحال. والثاني وقف يستغل تجاريا كالأول، لكن عوائده تصرف كلها أو بعضها في عمل خيري. والثالث وقف ليس له عوائد مادية، بل يستهدف توفير خدمة طبيعتها مجانية (سلعة عامة مجانية) أو بأسعار مخفضة تساعد على سد تكاليف التشغيل، سواء دخلت في الشعائر الدينية المحضة كبناء المساجد أو لم تدخل كإنشاء مرافق وخدمات عامة.
والحديث عن أهمية الوقف في التنمية بمعناها الواسع اقتصاديا واجتماعيا طويل لا يسمح حيز المقال بالتفصيل فيه. وبقية الحديث عن تمويل الوقف صيغا وتطويرا. والمقصود طبعا الوقف الذي يدر عائدا ماديا كغيره من أوجه الاستثمار في الزراعة والصناعة والعقار وغيرها من أوجه الاستغلال. ولذا فإن وصف الوقف بأنه عمل خيري غير ربحي وصف غير دقيق.
تطوير طرق تمويل الأوقاف مطلب بالغ الأهمية لتحقيق هدف زيادة مساهمة الأوقاف في الاقتصاد. وللتوضيح، فإن تنمية تمويل الأوقاف ليست أمرا جديدا. لكن التطورات في مجالات الحياة منذ قيام الثورة الصناعية فصاعدا تتطلب تطويرا في فهم وتطبيق الأساليب القديمة واستحداث ما يناسب وفقا للاعتبارات الشرعية والتطورات الاقتصادية عامة والتجارية والتمويلية خاصة، والتطورات التنظيمية والقانونية.
التمويل في المؤسسات المالية تحكمه مبادئ شرعية وقانونية مثل أن الأصل الإباحة وتحريم الغرر، أي جهالة المعقود عليه. وتبعا هناك صيغ وأدوات تمويل، متوافقة مع المبادئ السابقة. والتفصيل خارج نطاق المقال.
صيغ التمويل تعني ضمن ما تعني وجود شكل من الاقتراض يسدد من العوائد. وهذا يتطلب موافقة الجهات القضائية، فالناظر لا يملك وحده صلاحية الاقتراض لتمويل التوسع أو التطوير في الوقف. وهذا يجر إلى طلب تطوير في النظر القضائي للأوقاف. وخلاف ذلك، يمكن إضافة أوقاف لأوقاف قائمة، ويدخل في هذا المعنى توسيع أوقاف قائمة. كما أن الفرصة متاحة لاستبدال الوقف بأحسن منه بطرق تمويل تسدد من العائد الإضافي.
كما أن مبدأ المشاركة ممكن. ممكن بناء عقار بعضه من مال وقف وبعضه من مال حر. ويضبط الموضوع من جهة شرعية ونظامية لضبط الحقوق وما لكل طرف وما عليه من حقوق وواجبات. والتفصيل في هذا وفي قضية الإدارة ومدى الاستقلال فيها موضوع طويل خارج نطاق المقال
وممكن أن تحول أوقاف إلى بنية شركة وقفية تصلح للاكتتاب العام ويعرف المكتتبون مسبقا مواضع الاتفاق والاختلاف مع الشركات المساهمة الأخرى. وممكن تحديد رأس المال ثم زيادته بأوقاف جديدة أو تحسين للموجود أو كليهما. وممكن أن يفيد التمويل في استبدال وقف بوقف أعلى في العوائد والمنافع. وسداد التمويل من العوائد الجديدة.
ما سبق يتطلب مراجعة وتطوير آليات قائمة في تمويل واستثمار الأوقاف. هناك حاجة إلى مراجعتها وتطويرها تبعا للتطورات في مجالات التمويل والاستثمار والاستغلال. وطبعا دون إخلال بالقواعد الشرعية والنظامية. وهذا يعني أن تطوير الأوضاع القائمة يحتاج إلى تطوير القوانين والأنظمة واللوائح القائمة سواء لتطوير الجديد أو تحسين استغلال القائم أو معالجة مشكلات وعيوب قائمة أو رفع كفاءة إدارة الأوقاف.
ويمكن للأنظمة العامة، خاصة أنظمة المالية العامة، أن تطور بطريقة تدعم التوجه للاستثمار الوقفي الخيري أو شبه الخيري أو المخصص جزءا من عوائده لأوجه الخير العامة. مبرر الدعم أن هذا النوع من الاستثمار سيخفف الضغط عن المالية العامة. أختم المقال بطرح مقترح قيام جهات معنية، خاصة الهيئة العامة للأوقاف، بالعمل نحو إنشاء صندوق تنموي للأوقاف.