عملية انتقال الثروة بعد الوفاة .. .. هل فكرت فيها ؟
أدرك تماما أن مقالا بهذا العنوان قد لا يدعو إلى البهجة والسرور، وربما كثير من الناس قد يتجنبون قراءته، ولا سيما أننا نعيش أجواء روحانية في هذا الشهر الفضيل، ولدينا وباء نسأل الله أن يرفعه عنا ويكشف عنا غمته.
آخرون قد يظنون أنهم ليسوا بحاجة إلى التخطيط لمثل هذه الأمور، بحكم عدم وجود ما يمكن إطلاق ثروة عليه! وهذا غير صحيح، فالله - سبحانه وتعالى - أعطى كل مخلوق نصيبا من هذه الدنيا، وغالبا الإنسان يحبذ أن تسير الأمور المالية لورثته بأفضل حال، وأن يقوم بدوره قدر المستطاع.. وعلى أقل تقدير الشخص يحتاج إلى إعداد وصيته الشرعية التي هي من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم.
ما الطريقة المناسبة للتصرف فيما لدى الإنسان من أموال وممتلكات، كثيرة كانت أم قليلة، قبل مماته وبعد مماته، وكيف يتم التعامل في الصدقات الجارية والأعمال الخيرية والوصايا والأوقاف وتقسيم الإرث وغير ذلك؟ وهل هناك ممارسات مؤسسية متعارف عليها للقيام بذلك، وهل هي متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، وهل هي متاحة هنا في المملكة؟
في هذا التقرير سأقوم بإلقاء الضوء على كيفية تكوين مبلغ مناسب لما بعد الوفاة لأسرة المتوفى، وكيفية انتقال الثروة بشكل سلس ويسير. وفي تقرير مقبل سأتطرق إلى بقية المفاهيم والحلول الوقفية وأعمال الخير وعلاقتها بالتخطيط المالي للشخص. وبطبيعة الحال هذه مجرد آراء وأفكار تطرح هنا لمجرد المعرفة والاطلاع، وليس بهدف تقديم استشارات قانونية أو شرعية ليست من اختصاص الكاتب.
ما الحاجة إلى التخطيط بشأن الثروة في ظل وجود آلية شرعية محددة للمواريث؟
نعم يوجد في الشريعة الإسلامية ما يعرف بعلم الفرائض والتركات، التي بناء عليها يتم تقسيم الميراث بشكل عادل ودقيق على من يستحق الميراث، وبذلك قد لا تكون هناك حاجة عملية إلى القيام بتوزيع الثروة. لكن هنا نتكلم عن طرق التصرف في الثروات والتركات لمن يرغب في التصرف فيها بطرق استباقية أكثر فاعلية، في الحياة قبل الممات، بحيث يتم التصرف في التركات بحكمة وترو، بعيدا عن مشكلات التوريث والميراث والعراقيل الأسرية والنظامية، وحفظا لمستحقات القصر من الضياع والتبذير. كما أنه من خلال التخطيط هذا يمكن للشخص توجيه جزء من ثروته في سبل الخير الكثيرة، ولأجل المشاركة في تنمية البلاد اقتصاديا واجتماعيا، بشكل يتميز بالديمومة والاستقرار والاحترافية في العمل.
آلة حساب المواريث
بعد الممات يتم تقسيم الإرث بالطرق الشرعية المعروفة، حسب معادلات حسابية وآلية استحقاق محددة، يمكن لمن يريد التعرف إليها زيارة موقع وزارة العدل، للاطلاع على آلة حاسبة خاصة بحساب المواريث. وقد تكون للمتوفى وصية شرعية، ربما تشمل صدقات وهبات ومعونات للآخرين غير الورثة، بشرط ألا تتجاوز مبالغ الوصية ثلث قيمة التركة. كما لا يسمح في الوصية بتحديد كيفية توزيع التركة بشكل مخالف لقسمة الميراث الشرعي، كاستثناء أي من الورثة الشرعيين أو إشراك غير الورثة في الإرث.
قد تكون آلية تقسيم الإرث هذه كافية لمعظم الناس، لكن هناك آخرين لديهم ثروات ويرغبون في التصرف فيها بطرق شرعية استباقية وأكثر فاعلية، فما الخيارات الأخرى المتاحة لهم؟
كتابة الوصية سنة مستحبة وخيار مناسب
الوصية ليست واجبة لكنها مستحبة، وهي عبارة عن وثيقة مكتوبة يوصي فيها الشخص بالتصرف فيما يرغب من أموال ومقتنيات ويحدد مصارفها الشرعية، ويذكر اسم الوكيل على ذلك، وكما ذكرنا يجب ألا تتعارض مقتضيات الوصية مع محددات الورث الشرعي، ولا أن تتجاوز ثلث تركة الشخص.
ويمكن إثبات الوصية من خلال المحكمة، بحيث تكون وثيقة رسمية ومصادق عليها بصورة قانونية، ويتم ذلك بعمل إجراءاتها من خلال موقع وزارة العدل، بإرفاق نص الوصية وتحديد شاهدين ومعدلين، ولاحقا يقوم الشخص بزيارة المحكمة لإنهاء إجراءات إثبات الوصية.
وعلى الرغم من بساطة إعداد الوصية إلا أن نسبة من يكتبون وصاياهم في المملكة قليلة جدا، تصل إلى 3 في المائة فقط من الناس، بحسب الاستفتاء المرفق، وفي أمريكا تأتي هذه النسبة متدنية كذلك، فبحسب مركز متخصص في الرعاية الاجتماعية والتخطيط المالي caring.com نسبة الأمريكيين الذين لديهم وصية مكتوبة تراوح بين 33 و42 في المائة، لكن تشير الإحصائية إلى أنه بسبب جائحة كورونا ازداد عدد من يكتبون وصاياهم في أمريكا، خصوصا لمن أعمارهم بين 18 إلى 34 عاما، وهي فئة كانت في السابق قليلة الاهتمام بمثل هذه الأمور.
صندوق الاستئمان الشخصي Trust Fund
صندوق الاستئمان معروف بشكل كبير في الخارج، يعمل به من قبل كثير من الآباء، وطريقة عمله تتم بإنشاء كيان قانوني تسجل باسمه الأصول المراد حفظها فيه، ويتم تحديد شخص طبيعي أو اعتباري لإدارة الصندوق والإشراف عليه. الفكرة ببساطة هي أن يقوم الأب بإنشاء صندوق استئمان ويسميه مثلا صندوق أبناء فلان الفلاني، ويقوم بتحديد الأصول التي يرغب في جعلها جزءا من مكونات الصندوق، كأسهم أو صكوك عقارية أو حسابات بنكية وغيرها، ومن ثم يقوم بنقل ملكيتها إلى الصندوق. فيكون على سبيل المثال صك الأرض باسم الصندوق، لا باسمه هو، والفائدة من هذه الطريقة أنه في حالة وفاة الشخص يقوم الناظر، وهو الشخص أو المؤسسة المالية المسؤولة عن إدارة الصندوق، مباشرة بتولي عملية التصرف في موارد الصندوق من أرباح دورية وإيجارات وغيرها، ويقوم بتحويلها إلى حسابات المستفيدين المحددين من قبل الشخص المتوفى.
فائدة هذا الأسلوب المالي أن ورثة المتوفى يستفيدون مباشرة من موارد الصندوق، التي هي جزء من ثروة الشخص المتوفى لكنها ليست باسمه، ويتم ذلك دون الحاجة إلى اللجوء إلى المحكمة وعمل صك حصر ورثة وتقسيم التركة والانشغال بما ينشأ عنها من إشكاليات معروفة. كذلك من خلال هذه الآلية يمكن التصرف في الورث بطريقة منظمة حسب رغبة الشخص صاحب الصندوق، بحيث لا يتم على سبيل المثال تصفية الأصول بشكل سريع وتقاسم الورث بشكل غير مثالي أو غير متوافق مع رغبات الشخص المتوفى وآماله.
طريقة صندوق الاستئمان الموضحة هنا يبدو - والله أعلم - أنها شرعية ولا تخالف الأعراف الشرعية في تقسيم الورث، كون القرار المتعلق بطبيعة الأصول المدرجة في الصندوق وتحديد هويات المستفيدين هو قرار يتخذه الشخص وهو على قيد الحياة، وما يتبقى من تركة يذهب إلى القسمة الشرعية. فهذا الصندوق لا يغني عن الحاجة إلى إعداد وصية شرعية ولا إلى تقسيم الورث بالطريقة الشرعية، بل إنه مكمل لها.
الهيئة العامة للولاية على أموال القاصرين
تختلف فكرة صندوق الاستئمان عما تقوم به الهيئة العامة للولاية على أموال القاصرين ومن في حكمهم، التي تختص بالنظر في قضايا التركات والأموال الواقعة من ضمن بيت مال المسلمين، وذلك بعد انتقال الاختصاص إليها من وزارة العدل ووزارة المالية. أحد أهداف صندوق الاستئمان الشخصي هو ألا تنتقل أموال المتوفى إلى أي جهة أخرى طالما قام الشخص قبل الوفاة بإنشاء هذا النوع من الصناديق. لذا فإن الهيئة هذه تلعب دورا مختلفا يهدف إلى تحقيق الاستفادة القصوى من أموال القاصرين وغيرهم ممن لا ولي له، وتستعين بشركة استثمار خاصة بها في سبيل ذلك.
كم مبلغ الورث للأسرة الواحدة، الفعلي والمتوقع؟
لا توجد لدينا في المملكة بيانات يمكننا الاستناد إليها، لذا ننظر إلى أمريكا كمثال على نصيب الأسر من المواريث لمجرد أخذ فكرة عما يمكن أن تكون عليه، مع ضرورة الأخذ في الحسبان الفروقات بين المستوى المعيشي بين الدولتين. على سبيل المثال، نعرف أن متوسط دخل الفرد في أمريكا بحسب الأسعار الجارية للناتج المحلي الإجمالي 63 ألف دولار، مقابل 23 ألف دولار في المملكة، غير أن متوسط دخل الفرد مجرد مؤشر عام لقياس مشاركة الفرد في الناتج المحلي، ويتم بقسمة الناتج المحلي الإجمالي على عدد جميع سكان البلاد، الصغير والكبير، المواطن والوافد، الذكر والأنثى. لذا فأقرب مقياس مناسب هنا هو قياس دخل الفرد بحسب القوة الشرائية، الذي يبلغ 63 ألف دولار في أمريكا ومبلغ 56 ألف دولار في المملكة.
أي أنه بحسب مقياس القوة الشرائية، يمكن أن تكون الأرقام الظاهرة في جدول نصيب الأسر من الورث قريبة لما هي عليه في المملكة.
من الجدول الذي أعده البنك المركزي الأمريكي، يتبين أن متوسط الإرث العائد للأسرة الواحدة يبلغ 348 ألف ريال إذا كان الأب يحمل الشهادة الجامعية، وينخفض إلى 286 ألف ريال للأسرة ذات الأب الذي لا يحمل الشهادة الجامعية، بل إن الشهادة الجامعية لها تأثير كذلك في نسبة الأسر التي "تتوقع" الحصول على ورث، حيث تنخفض نسبة التوقع لدى الأسر التي لا يحمل آباؤها شهادات جامعية!
التخطيط للمستقبل من خلال تأمين الحماية والادخار
تأمين الحماية والادخار ربما هو أحد أهم الطرق للتخطيط المالي، الذي للأسف لم يتلق ما يكفي من التوعية والتسويق، وهو نوع من التأمين يسمى تقليديا بالتأمين على الحياة. هذا النوع من التأمين فيه اختلاف شرعي لا شك، لكن هناك جهات شرعية وعلماء أباحوه، انطلاقا من كونه من التكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتراضي، وهو مصرح به من قبل البنك المركزي السعودي، ويأتي تحت أسماء أخرى مثل التأمين التكافلي العائلي، حماية العائلة، راحة البال، وغيرها، ويقدم على سبيل المثال من قبل مصرف الراجحي.
تأمين الحماية والادخار هو أحد الحلول لمن يبرر تقاعسه للتخطيط لما بعد الوفاة، بحجة أنه ليس لديه ثروة تستحق العناء، فيموت تاركا خلفه من كانوا يعتمدون عليه - بعد الله - بلا دخل دوري ولا مبلغ مقطوع. الهدف الرئيس من تأمين الحماية والادخار تحقيق مبالغ مالية - كبيرة نسبيا - في حال وفاة الشخص أو عجزه الكامل.
في الخارج، ومن خلال مثال حقيقي، يعمل هذا التأمين ببساطة كما يلي: رجل عمره 40 عاما، بصحة جيدة وغير مدخن، يوقع عقد تأمين على الحياة لمدة 20 عاما، بحيث يلتزم بدفع أقساط شهرية بمقدار 200 ريال لمدة 20 عاما، وفي حال وفاته خلال هذه الأعوام الـ20 تقوم شركة التأمين بدفع مبلغ مقطوع مقداره ثلاثة ملايين ريال للمستفيدين من عقد التأمين. وفي حال انتهاء مدة العقد والشخص باق على قيد الحياة، فلا تكون هناك أي مستحقات له، لكن هناك خيارات لتمديد التأمين بأقساط عادة تكون أعلى، أو قيام الشخص بعمل تأمين جديد.
هناك مرونة عالية في هذا النوع من التأمين وأصناف عديدة، ويتميز بإمكانية تحديد أي مبلغ يختاره الشخص، مع القبول بدفع أقساط أعلى، بحيث تقوم شركة التأمين بدفع المبلغ عند الوفاة، إضافة إلى مرتب شهري حسب الحاجة، مع إمكانية تعديل مقتضيات العقد، بل حتى استفادة الشخص المؤمن من العقد أثناء حياته، للحصول على قرض أو دفعة مقدمة وهكذا.
التأمين على الحياة في المملكة
أما في المملكة، فما تم الاطلاع عليه في أحد الأمثلة من إحدى شركات التأمين، هو أن يقوم شخص عمره من 40 إلى 50 عاما بدفع نحو 820 ريالا سنويا لمدة خمسة أعوام، والحصول على مبلغ مائة ألف ريال في حالة الوفاة أو العجز. لاحظ أن مجموع ما سيدفعه الشخص في هذا المثال على مدى خمسة أعوام هو نحو أربعة آلاف ريال فقط، مقابل الحصول على مائة ألف ريال في حال العجز أو الوفاة. وهذا يوضح الجاذبية في عملية التأمين هذه، ويبين كذلك كيف أن فكرة التأمين على الحياة تعتمد على علوم الاحتمالات والحسابات الاكتوارية في تحديد مبالغ أقساط التأمين.
بحسب المتحدث الرسمي لشركات التأمين في المملكة تم إصدار نحو 117 ألف وثيقة تأمين حماية وادخار عام 2019، تمثل نحو 3 في المائة من حجم سوق التأمين، وتم دفع نحو 2.5 مليار ريال للمستحقين لهذا النوع من التأمين خلال الأعوام 2015-2019.
كما توجد شركات تأمين سعودية تقدم حلولا تأمينية أخرى، تختلف عن طريقة الحماية والادخار، هدفها دفع مبالغ مالية على شكل أقساط شهرية أو مبالغ مقطوعة لأغراض مثل التقاعد أو لدفع الأقساط المدرسية أو للزواج أو لغيرها من الالتزامات المالية.
خاتمة
في هذا التقرير الموجز تم التطرق إلى ضرورة التفكير في تقسيم الثروة الشخصية وآلية انتقالها إلى الجيل التالي، وضرورة كتابة وصية شرعية، حيث يمكن الآن القيام بذلك إلكترونيا. كما تطرقنا إلى فكرة استخدام صندوق الاستئمان الشخصي لحفظ الأصول المالية للشخص وجعلها تدر تدفقات نقدية دورية على الورثة، كبارا وصغارا، وكيف أن هذا الصندوق يساعد على التصرف في الميراث بطريقة منظمة وسريعة، وأخيرا تطرقنا إلى أهمية الاستفادة مما يعرف تقليديا بالتأمين على الحياة، لما يمكن أن يحققه ذلك لورثة المتوفى من مبالغ مالية، تعينهم في أمور حياتهم بعد وفاة ولي أمرهم.