المواطن في حديث ولي العهد

لم يقتصر حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في المقابلة التلفزيونية الخاصة عن رؤية المملكة 2030 على ذكر الإنجازات التي تحققت في برنامج الرؤية بل إن ولي العهد وضح بشكل دقيق للمواطن السعودي أسباب تحقيق كثير من تلك الإنجازات خلال الأعوام القليلة الماضية ولم تكن لتتحقق في سابق الأعوام على الرغم من الميزانيات الضخمة التي رصدت لها ولا سيما خلال أكثر من عشرة أعوام من الطفرة المالية.
تحدث ولي العهد عن مفهوم جديد في برنامج الرؤية لم يكن معهودا في السابق عن السياسات العامة Public Policy - ذلك الإطار البالغ الأهمية في التخطيط والتنفيذ للمشاريع الحكومية. إطار عملي فاعل يعمل به بنجاح في الدول المتقدمة إداريا وتنمويا من خلال ما يسمى "مركز الدولة" في التنسيق بين مختلف الأجهزة الحكومية وسن القوانين المطلوبة والمحاسبة.
لم يكن هناك أي تطبيق لضوابط السياسة العامة في معظم المشاريع الحكومية في المملكة وبدت النتائج جلية واضحة أيام الطفرة والهدر المالي. مثال على ذلك ما ذكره ولي العهد عن برنامج الإسكان الذي كان مطلبا ملحا للمواطن ومن أولويات مشاريع الدولة رصد له 250 مليار ريال عام 2011. وخمسة أعوام مضت بعد ذلك في قمة أزمة الإسكان في المملكة ولم ينجز شيء في هذا المشروع الوطني المهم. وبقي موضوع الإسكان والمبالغ المرصودة له مشروعا متعثرا بين وزارات متفرقة وغياب لمركز الدولة في التنظيم والمحاسبة. كانت وزارة الإسكان وقتها ضعيفة لا تستطيع عمل شيء فاقدة الرؤية والقدرة على التحرك والمواطن ينتظر أعواما طويلة للحصول فقط على قرض إسكان.
وفي الأعوام القليلة الماضية من خلال برنامج رؤية المملكة 2030 ومركز الدولة القوي تحركت الأمور بشكل لافت لنظر المواطن والمختص. عادت وزارة الإسكان بطاقة هائلة ونجاحات متواصلة قفزت فيها نسب توافر الإسكان للمواطن وأصبحت قروض وإعانات الإسكان للمواطن تتحقق بشكل يكاد يكون فوريا مقارنة بفترات سابقة من الانتظار تصل إلى عشرة أعوام أو أكثر. وما كان ذلك ليكون لو لم يتم الدفع بقوة في مركز الدولة في إطار سياسات عامة فاعلة للتنسيق بين الجهات الحكومية ذات العلاقة ومنها الشؤون البلدية ووزارة المالية والبنك المركزي وسن القوانين المطلوبة لتسريع الإنجاز وتسهيل أمور المواطن. أصبحت وزارة الإسكان في أعوام قليلة أحد أقوى الأجهزة الحكومية في سرعة الأداء والفاعلية.
وقطاع التوظيف مثال مشابه لما كان يحدث في قطاع الإسكان بالرغم من توافر ورصد موارد مالية هائلة. بدا قطاع التوظيف لأعوام متعثرا وكأنه لا يمكن تحقيق أي تقدم في هذا المجال المهم. وكان من الصعب على كثير من الاقتصاديين والمختصين تفسير ظاهرة ضعف التوظيف بالرغم من الإنفاق الحكومي الكبير المتوالي عاما بعد عام خلال أعوام الطفرة التي وصل فيها الإنفاق الحكومي إلى مستويات الهدر المالي. ومع ذلك لا يكاد يحدث أي تغيير في الفرص الوظيفية للمواطن السعودي.
تغير الوضع في قطاع التوظيف بشكل كبير خلال الأعوام الماضية بالرغم من انخفاض إيرادات الدولة من البترول والآثار الاقتصادية المترتبة على جائحة الكورونا. وظهرت في الأفق بشكل كبير فرص واعدة لشباب الوطن من خلال مختلف برامج رؤية المملكة 2030 فضلا عن الفرص الكبيرة للمرأة السعودية التي تعدت في نسب مشاركتها ما كان مخططا له في برنامج الرؤية. وأصبحت وزارة الموارد البشرية منسقا أساسيا نحو تفعيل السياسات العامة في برامج الرؤية لتقوية الميزة التنافسية للمواطن السعودي. ومن الإنجازات الأخيرة في هذا المجال المبادرة الجديدة التي تم اعتمادها وأشار إليها ولي العهد في تصريح سابق "تحسين العلاقة التعاقدية في سوق العمل السعودية" التي تعد المبادرة الأقوى والأكثر جدية نحو توفير فرص وظيفية أكبر للمواطن السعودي ووضع المملكة على صف الدول المتقدمة في برامج وقوانين سوق العمل بما يحفظ حقوق المواطن والمقيم.
مثال آخر لا يكاد يغيب عن المراقب المختص يتمثل في الطاقة الجديدة الهائلة لصندوق الاستثمارات العامة الذي كان في السابق جهازا ضعيفا نائما وقد فوت على المملكة فرصا استثمارية تاريخية في الداخل والخارج. أصبح صندوق الاستثمارات العامة في فترة قصيرة قوة استثمارية لا يمكن إيقافها. ولو لم يتخذ القرار من جهة أعلى في مركز الدولة بإنشاء أول صندوق سيادي سعودي في إطار سياسة عامة للمستقبل لما تحقق ذلك الإنجاز.
ووزارة المالية التي كان يشار إليها بأنها الأكثر ترهلا بين أجهزة الدولة والأكثر تسببا في تعطيل كثير من المشاريع أصبحت في وقت قصير أحد أكثر أجهزة الدولة ديناميكية بسياسات مالية فاعلة وفي أصعب الأوقات. بدا ذلك واضحا في مواجهة الانخفاض الحاد في إيرادات البترول والآثار الاقتصادية المترتبة على جائحة الكورونا. كما تطور أسلوب العمل في وزارة المالية بشكل كبير لا يقل عن أفضل الممارسات العالمية وكأن الوزارة قد أنشئت من جديد. ويعود للأذهان في هذا الشأن النقلة النوعية التي حدثت في ضبط الشأن المالي في المملكة عندما واجهت المملكة أزمة مالية كبيرة في بداية الستينيات من القرن الماضي.
يوضح علماء السياسات العامة في كثير من المناظرات المتعلقة “Public Policy Debates” أن السياسات العامة الفاعلة أداة قوية لضبط الإنفاق والمحاسبة Accountability وأن غياب سياسات عامة منضبطة يمكن أن ينتج عنه ليس فقط عدم فاعلية أو تعثر في إنجاز المشاريع وإنما قد يكون سببا في الهدر المالي وأنواع من الفساد الإداري والمالي. ومن هنا تأتي أهمية وعمق ما جاء في حديث ولي العهد نحو ضوابط عمل جديدة ونظرة مستقبلية ثاقبة بدأت نتائجها تظهر ولا يمكن إلا أن تكون في مصلحة المواطن السعودي والأجيال القادمة بحول الله وقوته. ولا يستغرب حماس كثير من المختصين الأجانب في المنطقة العربية وخارجها لتلك التوجهات البالغة الأهمية التي صرح بها ولي العهد وتوقعاتهم أنها قد تحدث فرقا كبيرا لو طبقت في بلدانهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي