السعودية ومكافحة الفساد .. من معركة محلية نحو رهان عالمي
لا تزال ثمار رئاسة المملكة العربية السعودية مجموعة العشرين تؤتى أكلها، فالحدث لم ينته بانقضاء الرئاسة العام الماضي، بل يمتد من خلال عناية وتتبع الدولة للمبادرات والمشاريع والخطط العالمية التي قدمت أو اعتمدت إبان رئاستها. وكان المشروع الذي تبنته منظمة الأمم المتحدة، يوم الخميس الماضي، من جملة هذه الثمار، حين اعتمدت الهيئة مشروعا عالميا لمكافحة الفساد، يحمل اسم "الشبكة العالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد" GlobE، كانت المملكة أعدته إبان رئاستها للعشرين.
يهدف المشروع إلى تعزيز التعاون الدولي المشترك في مجال مكافحة الفساد، وتطوير أداة سريعة وفاعلة لمكافحة جرائم الفساد العابرة للحدود، وإنشاء منصة عالمية، لتسهيل تبادل المعلومات بين السلطات، وإطلاق برنامج لبناء القدرات داخل الشبكة، قوامه إنشاء شبكة عمليات عالمية، لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد، اعتمادا على ما توفره المنصة من معلومات ومعطيات بهذا الشأن.
تعد هذه الخطوة وحدها، قفزة نوعية في مجال مكافحة الفساد على الصعيد العالمي، بعد مضي نحو عقدين من الزمن، على اعتماد اتفاقية مكافحة الفساد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب القرار رقم 4/58، بتاريخ 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2003. فمن شأن ذلك مساعدة السلطات المعنية على إنفاذ القانون، من خلال التوسع في عملياتها القانونية عن طريق التعاون العابر للحدود، ما سيسهم في إعادة بناء الثقة لدى الأفراد والجماعات، في المساعي الدولية لمكافحة الفساد والقضاء على الفاسدين.
ولا سيما أن المبادرة السعودية تأتي في زمن يشهد انتكاسة عالميا للحرب على الفساد، كما تؤكد ذلك تقارير منظمة الشفافية العالمية، فأكثر من ثلثي دول العالم، بما فيها عديد من الاقتصادات المتقدمة، عانى ظهور ملامح التراجع في جهود مكافحة الفساد. فعلى سبيل المثال، سجلت أربع دول من مجموعة الدول السبع تراجعا في مؤشر 2019، هي: كندا "-4"، فرنسا "-3"، المملكة المتحدة "-3"، والولايات المتحدة الأمريكية "-2"، فيما لم تشهد ألمانيا واليابان أي تحسن.
وسجل مؤشر العام الماضي بدوره، تراجع 22 دولة بدرجات ملحوظة، منها: لبنان "-25"، مالاوي "-30"، البوسنة والهرسك "-35"، مالطا "-35"، وبولندا "-56". هذا ويبقى نحو نصف الدول راكدا في سلم المؤشر منذ نحو عقد من الزمن، ما يعني تعثر جهود حكوماتها في معالجة الأسباب الجذرية للفساد.
في خضم هذا التراجع العالمي، حققت المملكة العربية السعودية نجاحا لافتا في معركتها ضد الفساد، فالعالم بأسره لا يزال يتذكر حملة عام 2017 لمكافحة الفساد، ضمن الخطة الإصلاحية في البلاد. وانتهت العملية، التي شملت شخصيات "نافذة"، باستعادة مليارات الدولارات في سابقة من نوعها في العالم العربي، ما يثبت أن محاربة الفساد في المملكة باتت رهانا لا محيد عنه في معركة التحول التي تؤطرها رؤية المملكة 2030.
هكذا إذن، واستشعارا من المملكة بخطورة الفساد وتأثيره السلبي في الاقتصاد العالمي، أخذت على عاتقها تحويل المسألة من رهان قطري، ينحصر في حدود الدولة، نحو معركة عالمية، تشارك فيها كل الدول والهيئات العالمية. ويعزى ذلك إلى يقين قيادة البلاد بأن الفساد أخطبوط عالمي، يستعصي على التطويق والمحاصرة ما لم تنخرط الدول قاطبة في هذه الحرب التي تكلف الشعوب الشيء الكثير في مدارج التنمية والرقي والتقدم.
لأجل ذلك كله، قدمت المملكة العربية السعودية عشرة ملايين دولار، قصد إنشاء شبكة GlobE، التي تخدم احتياجات الدول للتعاون الدولي العابر للحدود في مجال مكافحة الفساد، بما يسهم في التغلب على أي تحديات مصاحبة لذلك. وهي على يقين بأن تكلفة استشراء الفساد في العالم أضعاف مضاعفة من هذا الرقم. والأدهى من ذلك أن الأمر يتكرر بشكل سنوي، فالممارسة تصنف ضمن خانة الجرائم، كما جاء على لسان أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، في كلمته خلال الدورة الاستثنائية الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة لمكافحة الفساد، حيث أعلن مبادرة المملكة، بقوله "إن الفساد لا يعد سلوكا غير أخلاقي فحسب، بل إنه جريمة خطيرة، عادة ما تكون منظمة وعابرة للحدود، ويحول دون التنمية المستدامة، من خلال استهلاكه الموارد اللازمة لتحقيق ذلك".
تصر المملكة من جديد على خيار المشاركة والتقاسم مع بقية دول العالم، فما من تجربة تنجح في الدولة إلا وتسارع القيادة فيها - وفاء لقيم الكرم الحاتمي - إلى تدويل المشروع أو الخطة، حتى تصبح بين يدي دول العالم قاطبة.