«الكر والفر» في صلب الاتفاق النووي الإيراني الجديد

«الكر والفر» في صلب الاتفاق النووي الإيراني الجديد
استثمارات الإيرانيين في البرنامج النووي عند نقطة دنيا نتيجة للضغط الأمريكي.
«الكر والفر» في صلب الاتفاق النووي الإيراني الجديد
تعد ثقافة "الموت لأمريكا" خادما مخلصا للمصالح القومية لإيران.

يمارس النظام الإيراني لعبة الكر والفر مع الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي، فيما يتعلق بالملف النووي، الذي تسعى إدارة بايدن معه إلى إجراء اتفاق جديد خلفا للاتفاق الذي أنسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، حيث كانت اللهفة عنوان مرحلة الانتخابات الأمريكية، لكن عقب تسلم بايدن السلطة كان خجل المبادرة والتريث الأمريكي سببا في الجفاء بين الطرفين، لتذهب طهران في طريق آخر كليا، وتتخلى عن التزاماتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولتزيد من تخصيبها، لتصل النسبة إلى خمسة أرطال من المواد المخصبة بمعدل 60 في المائة، حيث يمكن الحصول على اليورانيوم المستخدم في صنع القنابل 90 في المائة، من خلال مزيد من أعمال التخصيب.
أطراف الاتفاق النووي جاهزة للحوار، لكن لكل منها أهدافا ومطامع، فيما تتطلب أي استراتيجية أمريكية فعالة حيال إيران إجراء تقييم صريح لطبيعة القيادة الإيرانية، من خلال التطرق إلى أسئلة ثلاثة محاور رئيسة هي: هل لدى القيادة الإيرانية نية حقيقية لتنفيذ إجراءات إصلاحية حقيقية؟ وهل باستطاعتها التخلي عن النهج المعادي للولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعد مكونا لسياستها الثورية؟ وما احتمال أن تغير سياساتها الإقليمية الراسخة، بما في ذلك سعيها إلى إنشاء ميليشيات إقليمية مثل حزب الله؟
الملف النووي من وجهة نظر واشنطن يهدف إلى التركيز على صيغة جديدة أكثر حذرا من اتفاق نووي جديد، حيث تعطيه أهمية قصوى كون العودة إلى الاتفاق النووي من وجهة نظر إدارة بايدن ستمثل مدخلا لتطبيع الأوضاع، وستسهم في فتح آفاق للحوار البناء بين دول المنطقة، ولا سيما بين طهران والرياض، إذ يعني استمرار الأزمة مزيدا من مساعي إيران التخريبية تجاه منطقة الخليج، ودعم ميليشيا الحوثي.
لكن يبقى طرف ثالث في المعادلة هو إسرائيل، التي لا تخفي انزعاجها ومخاوفها الكبيرة من تطور البرنامج النووي الإيراني على الرغم مما يواجهه من صعوبات وتحديات كبيرة، خصوصا بعد الاستهدافات التي طالت المشروع والقائمين عليه.
بدورها، عززت التصريحات الأخيرة، التي أدلى بها كل من أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، وتيموثي ليندركينج المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن هذه النظرة الأمريكية، حول ترابط الملفات في المنطقة، إذ دعا طهران إلى استعمال نفوذها على ميليشيا الحوثي الإرهابية، للتحرك بشكل بناء لإنهاء الحرب في اليمن، أما ليندركينج فقد ربط بشكل لا لبس فيه بين مسألة الملف النووي والعلاقات السعودية-الإيرانية، والوضع في اليمن عندما قال في لقاء تلفزيوني، في أيار (مايو) الماضي "إن تقدم المباحثات بشأن الملف النووي الإيراني سيسهم في تقدم الحوار السعودي الإيراني، ويفيد اليمن".
التسوية بحاجة إلى تنازلات من جميع الأطراف، وإسرائيل ليست ببعيدة عما يجري حتى لا يحصل معها -كما تعده- خذلان أمريكي ضمنيا نتيجة لما حدث في غزة، لذلك لا بد من حكومة وسط يكون نتنياهو غير موجود فيها، حيث تشير تقديرات إسرائيلية إلى أن الحكومة الجديدة، حال تنصيبها، ستكون أمام، انفتاح مع إدارة بايدن حيث إنها أقرب إلى الوسط من اليمين، ما يعني سياسة مخالفة لنهج بنيامين نتنياهو.
هناك اختلاف في المواقف إزاء واشنطن بين التوجهين، وإن كان كلاهما يقر بالأهمية الاستراتيجية للشراكة مع واشنطن، لكن الاختلاف أن المرحلة الحالية تريد حكومة إسرائيلية بعيدة عن الإدارة الأمريكية السابقة، أي إدارة ترمب.
وفي سياق متصل، أكد الجنرال تامير هيمان مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، لمراسلين في مؤتمر صحافي سابق أن استثمارات الإيرانيين في البرنامج النووي هي الآن عند نقطة دنيا نتيجة للضغط الأمريكي والإسرائيلي، ووفقا لذلك فإن إيران تبعد عامين على الأقل عن تطوير سلاح نووي.
ويعد هذا الإعلان بمنزلة السبق، فأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من بين الأكثر سرية في العالم ومشهورة بكتمان عملياتها وتقديراتها الاستراتيجية، وهذه التصريحات العلنية استلزمت بكل تأكيد تصريحا من أعلى المستويات في الحكومة الإسرائيلية، وكونها أذيعت فهذه إشارة إلى المخاوف الإسرائيلية المتنامية من أن الإدارة الأمريكية الجديدة، تسارع بإعادة التواصل مع إيران، بما قد يكون له توابع كارثية.
بلا شك، إسرائيل اليوم وبعيدا عن الحكومة اليمينية ستتنازل ضمنيا في استراتيجية إدارة بايدن، تجاه إيران في حال تعلق الأمر بعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي الإيراني، وعلى الرغم من مطالبها بفرض عقوبات مشددة على طهران، والتلويح بعمل عسكري ضدها، كطريق للتوصل إلى صفقة تمنعها من امتلاك أسلحة نووية، إلا أنها ستسير وفق الرؤية الأمريكية، وتباركها.
هذه المخاوف مبنية على معلومات موثقة، فمن قبل حتى أن تتولى إدارة بايدن السلطة كان قادتها أوضحوا أن إعادة الانخراط مع إيران ستكون في صلب أجندتهم في الشرق الأوسط، والآن بعد تولي السلطة، أصبح هذا التوجه حقيقة.
لكن هنالك تيارا آخر متناقضا تماما، يرى أن إدارة بايدن لا تريد توسيع نطاق المفاوضات النووية مع إيران لتشمل سياسات طهران المحلية والإقليمية، وأن التحدي يكمن في كيفية التوفيق بين هذه الأولويات الثلاث بدلا من التركيز على أوجه التناقض فيما بينها، حين وقع الجانبان على خطة العمل الشاملة المشتركة، أي الاتفاق النووي مع إيران في 2015، أي ستبقى السياسات السلبية لإيران داخليا وخارجيا كما هي، لكن مع اتفاق نووي جديد، وستبقى مخاوف عديد من الناس الذين كانوا قلقين من الطموح الإيراني الإقليمي في مكانها.
كما تجاوزت المخاوف حدود الطموح، لتنتقل إلى القمع الذي تمارسه محليا، حيث تمت التضحية بأحلام الإيرانيين في الحرية على مذبح الاتفاق النووي، لذا تنبغي صياغة استراتيجية حيال إيران تكمل بموجبها هذه الأهداف بعضها بعضا بدل أن تكون متناقضة.
ويتصادم الواقع الذي يهدف إلى السلم والاستقرار في المنطقة بالأيديولوجيا التي يؤمن بها الصف الأول من مؤسسة الحكم في إيران وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يكتسب شرعية نظامه من العداء الصريح والواضح لأمريكا وكل من يحالفها، حيث إن خصومة إيران مع واشنطن ركن أيديولوجي من أركان الثورة، وجزء لا يتجزأ من هويتها.
كما تعد ثقافة "الموت لأمريكا" خادما مخلصا للمصالح القومية لإيران، أي المصالح الاقتصادية والأمنية للشعب الإيراني، بل تخدم مصالح خامنئي ضيقة الأفق، إذ يدرك جيدا أن البيئة المغلقة هي الطريقة الفضلى للحفاظ على نفوذه، لذا يحتاج إلى خصم خارجي كذريعة للإخفاقات الداخلية والقمع.
وهذا يعد أحد أسباب تغول سلطة الحرس الثوري الإيراني على بقية مؤسسات الدولة في إيران، من خلال إقصاء الشخصيات الوطنية ذات التوجه الوسطي أو الإصلاحي.

الأكثر قراءة