إيران .. انتخابات المرشح الوحيد

إيران .. انتخابات المرشح الوحيد

"انتخابات بأي حال عدت يا انتخابات"، هذا لسان حال الإيرانيين هذه الأيام - مع الاعتذار للمتنبي -، ولا سيما بعد إصرار "مجلس صيانة الدستور"، هيئة غير منتخبة تابعة للمرشد، على القطعية مع الديمقراطية الشكلية، وإنهاء مبدأ الطابع التعددي الذي اتسمت به الانتخابات السابقة، لمصلحة إقرار "سباق الحصان الوحيد" ممثلا في دعم تزكية مرشحي التيار المتشدد، في مقابل إقصاء الإصلاحيين والمعتدلين من النزال الانتخابي.
سيناريو متوقع بالنظر إلى الجو العام داخل الدولة، فالمحافظون بسطوا سيطرتهم على مؤسسات الدولة، خاصة بعد اكتساحهم الانتخابات البرلمانية العام الماضي، ووصول محمد باقر قاليباف، قائد سلاح الجو السابق في الحرس الثوري إلى رئاسة البرلمان، وإسناد مهمة رئاسة السلطة القضائية في البلاد إلى إبراهيم رئيسي الأصولي المتشدد، ولم يتبق أمامهم سوى الانقضاض على السلطة التنفيذية.
لحظة باتت قريبة أكثر من أي وقت مضى، تحديدا بعد قبول إبراهيم رئيسي في قائمة المرشحين للتنافس على الرئاسة، وخلافة روحاني كثامن رئيس لجمهورية المرشد. ولا سيما أن الرجل من الأسماء المحتملة لخلافة المرشد خامنئي، الذي تجاوز عتبة 82 عاما في العمر. وصاحب 38 في المائة من الأصوات، في آخر استحقاق انتخابي رئاسي عام 2017.
ومهدت خسارته الانتخابات الطريق نحو تعيينه في منصب رئيس السلطة القضائية، كخطوة أولى في الطريق نحو خلافة المرشد، وما الإصرار على الظفر بولاية رئاسية سوى دليل يثبت حرص الرجل على اختراق هياكل الدولة لتسهيل مهمة خلافة المرشد. وكان توصيفه، بـ"آية الله"، من جانب وسائل إعلام تابعة للحرس الثوري، وتدريسه أخيرا في الحوزة العلمية، كأحد الشروط الدينية لتولي منصب المرشد، مؤشرات على اقترابه من منصب صهره. فصلة النسب التي جمعته بخامنئي كانت السبب وراء الترقي السريع في نظام ولاية الفقيه، بمعية القضاء يحظى بالعضوية في "مجلس خبراء القيادة"، وأسندت إليه رئاسة "العتبة الرضوية"، ما أصبغ جانبا دينيا على نفوذه السياسي.
تحتفظ ذاكرة الإيرانيين بسيرة غير جيدة لإبراهيم رئيسي، فهو رجل الظل الذي يدير كل المهام القذرة التي يخشى الممسكون بالسلطة أن تتلطخ أيديهم بها، وكان أشهر تلك العلميات عضوية "لجنة الموت" التي نفذت عام 1988 إعدامات جماعية، بفتوى من الإمام الخميني المرشد الأعلى، بحق آلاف المعارضين، في السجون الإيرانية، بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية "1980- 1988".
قرأ مراقبون في الدفع بالتيار المتشدد، رئيسي وجليلي ورضائي وزكاني...، رسالة إلى الخارج، قبل أن تكون استجابة لتحدي الضبط الداخلي، بعد رحيل قاسم سليماني الذي شهد النظام بموته هزة كبيرة على مستوى الاستقرار الداخلي، على اعتبار أن المرشد فقد يده الضاربة. فالتلويح بهذه الأسماء، بحسب هؤلاء، يرد في سياق المناورة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية حول البرنامج النووي الإيراني، حيث تجرى المفاوضات في فيينا، قصد إعادة إحياء الاتفاق النووي. وهذا أسلوب إيراني أصيل، لكسب تنازلات من الغرب في لحظات الأزمات.
الدفع بإبراهيم رئيسي للتنافس والرهان عليه لن يكون من أجل الخسارة هذه المرة، في ظل تزايد احتمال اختياره مرشدا أعلى للجمهورية. ما يعني الاتجاه نحو سياسة المواجهة الصفرية مع العالم الخارجي، بعيدا عن الدبلوماسية والحوار، حيث ينتمي الرجل إلى معسكر المتشددين من أصحاب إعطاء الأولوية للخيار العسكري، كما كان من أبرز الشخصيات الرافضة للاتفاق النووي عام 2015.
لكن معطيات التاريخ تثبت محدودية وعدم دقة هذه القراءة، فالسياسة الخارجية كانت على الدوام ملفا بين يدي المرشد ورجال الحرس الثوري الإيراني، لا بين ناظري الأجهزة التنفيذية، فالانفتاح على الغرب في الملف النووي الإيراني وبداية المفاوضات مع الثلاثي الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية كان في عهد الرئيس المتشدد أحمدي نجاد. وفي المقابل، ازداد تدخل الحرس الثوري في السياسة الخارجية في عهد الرئيس روحاني. ويظهر أن واشنطن على دراية تامة بهذه المسألة، لذا لم تضغط من أجل خطوات لمصلحة دعم التيار الإصلاحي، من خلال إنجاز الاتفاق قبل الانتخابات.
يبقى المؤكد راهنا أن إيران دخلت مرحلة جديدة، قوامها محاصرة في أفق اجتثاث القوى الإصلاحية "المعتدلين" من بنية النظام. فنجم التيار الإصلاحي في أفول منذ أعوام، بعد حصار نخبهم، واستبعادهم من الواجهة السياسية، ومنعهم من لعب دور قيادي داخل مؤسسات صنع القرار. فالارتفاع من نصيب أسهم المتشددين، وعلى رأسهم مؤسسة الحرس الثوري التي تبسط نفوذها على أجهزة الدولة تباعا، وحاليا بصدد السيطرة على مؤسسة الرئاسة.
من تبعات الصراع في هذه المحطة الانتخابية، الإعلان المبكر عن نهاية مرحلة "تيار الدولة"، ممثلا في الأصوات المعتدلة المؤمنة بإمكانية التغيير من داخل النظام، وذلك باستثمار الهوامش المتاحة عن طريق القنوات المؤسساتية. وبداية حقبة جديدة، قوامها التحول أو بالأحرى استعادة العقيدة الثورية؛ الدولة/ الثورة، بخطابها الطائفي وأيديولوجيا المذهبية.
وعزز هذا منسوب الاحتقان والرفض في صفوف الإيرانيين، والدليل على ذلك نسبة المقاطعة التي تجمع التوقعات على أنها ستكون قياسية في تاريخ البلاد، كرد من هؤلاء على تصرفات النظام. وكان حسن خميني نجل المرشد الأسبق، من أوائل الأصوات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية، على خلفية ألاعيب المرشد من خلال آلية "مجلس صيانة الدستور" بقوله "لك الحق في التصويت، كما يحق لي اختيار من أريد، لا يمكنك أن تختار لي وتقول انتخب هذا". وسرعان ما انضمت إليه أصوات ثائرة من داخل الحوزة العلمية، أبرزها آية الله محمود أمجد المرجع الديني، الذي أكد في رسالته "أنتم بقوة عصا الزور والمال تريد أن تجعل من عباد الله عبيدا لك، وأفرغت الجمهورية من جوهرها بالكامل، ومنعت الأحرار من أن يتنفسوا".
خوفا من تداعيات غير متوقعة لأصوات هنا وهناك، على غرار سيناريو الحركة الخضراء، تدخل المرشد بشكل مستعجل، فدعا إلى المشاركة المكثفة في الانتخابات، مؤكدا أنها بمنزلة استفتاء أو بيعة، معلنا في الوقت ذاته أن "التصويت بورقة بيضاء، أيا كان السبب، في حال أدى إلى إضعاف النظام الإسلامي في إيران محرم". فيما تطوع أحمد علم الهدى، والد زوجة رئيسي، وممثل المرشد في محافظة خراسان، بشن هجوم قوي على الداعين إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية الإيرانية، معتبرا "كل من يقاطع الانتخابات أو يمتنع عن المشاركة فيها قد خرج عن الإسلام".
يذكر الإيرانيون أن وصول إبراهيم رئيسي صاحب المهام القذرة إلى السلطة التنفيذية، يعادل موضوعيا حقبة سوداء في تاريخ البلاد، يحتمل أن تشهد حملة تطهير، بهدف تنقية الأجواء وكتم الأنفاس، لضمان خلافة سلسة للمرشد، في وقت ارتفعت فيه الأصوات بين مطالبة بالإلغاء، وأخرى بمراجعة مؤسسة المرشد.

الأكثر قراءة