الصين .. ثورة في الثكنات تأهبا لقيادة العالم

الصين .. ثورة في الثكنات تأهبا لقيادة العالم
استغلت بكين انتشاء واشنطن بقيادة العالم وانشغالها بإدارة الحرائق الملتهبة.
الصين .. ثورة في الثكنات تأهبا لقيادة العالم
سيرورة التحديث العسكري الصيني تظل رهينة ما يكشف عنه من معطيات وتفاصيل.

تصر الصين على السير قدما نحو انتزاع، أو على الأقل اقتسام، قيادة العالم مع الولايات المتحدة، فإلى جانب التنافس التجاري والتدافع الاقتصادي والحرب التكنولوجية، تسارع بكين الزمن في الجبهة العسكرية، باعتماد خطة ترمي إلى تحديث جيش التحرير الشعبي الصيني، حتى يكون في مستوى يليق بدولة تتطلع بجدية إلى المنافسة على زعامة العالم.
يعود تأسيس الجيش الأحمر إلى 1927، ما يجعله حديثا نسبيا مقارنة بجيوش الدول الكبرى "بريطانيا 1707، أمريكا 1775، فرنسا 1792، إيطاليا 1861، اليابان 1871...". وارتبط تاريخيا بانتفاضة "نانتشانج" التي عززت تبعية الجيش للحزب الشيوعي، وكشفت مدى الولاء الأيديولوجي لقيادة الحزب، حد اعتباره إحدى ركائز الحكم الجديد في الصين.
جيش صيني تقليدي
كانت أحداث ساحة تيانانمن، بداية حزيران (يونيو) 1989 سببا وراء إطلاق عملية إصلاح للجيش الصيني، وبشكل خاص القوات البرية التي شكلت على الدوام العمود الفقري للجيش الصيني. فالمساحة الشاسعة للبلاد، فرضت إيلاء العناية في السابق بالقوات البرية على حساب البحرية والجوية، فكان هدف الحزب على الدوام بناء جيش بري قوي، يمكنه التصدي لأي غزو بري، وزادت هيمنة الاقتصاد الزراعي على الصين من مكانة وأهمية الحفاظ على الأراضي.
لكن هذا التوجه لم يعد مقبولا من دولة أضحت مصنع العالم، ما جعل منتجاتها تغزو الأركان الأربعة للعالم. لذا بات لزاما عليها مراجعة هذه الاستراتيجية، حتى تنسجم مع ما تفرضه طبيعة الأنشطة والمصالح الاقتصادية في آسيا وإفريقيا، وارتباط النمو الاقتصادي للبلاد بأمن الطاقة، وضمان حرية الملاحة في الممرات البحرية، خاصة أن الجيش منخرط بدوره في هذا التحول الوطني الكبير، فقد صارت المؤسسة العسكرية منظمة تجارية أكثر منها منظمة عسكرية، بعد استحواذها على مجموعة واسعة من الشركات الصغيرة في البلاد، ما أسهم في ارتفاع ميزانيتها عاما بعد آخر.
استغلت بكين انتشاء واشنطن بقيادة العالم، وانشغالها بإدارة الحرائق الملتهبة في عديد من مناطق العالم "أفغانستان، العراق..."، فطرح الرئيس تشي جين بينج، خطة التطوير العسكري، مستخدما أسلوب الدبلوماسية الناعمة عند الحديث عن أهداف الصين من وراء ذلك، برغبتها في المشاركة بفاعلية في العمليات العسكرية "غير الحرب"، من قبيل: الاستجابة للكوارث والبحث والإنقاذ ومكافحة القرصنة... وامتناعها عن التدخل العسكري المباشر، على الرغم من نشاطها في بيع الأسلحة، لكن هذه المحرمات تتآكل باطراد، مع رقي الجيش الصيني في مدارج التطوير والتحديث والعصرنة.
ثورة صينية في الثكنات
مهدت هذه التحضيرات للإصلاح الكبير 2015، بموجب هذا التحديث دشنت الصين صفحة جديدة في تاريخ الجيش الأحمر، بعدما تحول من النمط السوفياتي للجيوش نحو النمط الغربي "الأمريكي والفرنسي"، القائم على أساس التكامل بين الوحدات المختلفة للجيش، بدل إخضاع كل الوحدات لمركزية القوات البرية. بذلك تكون الوحدات الثلاث، البرية والجوية والبحرية، على قدم المساواة. في المقابل، ترقت فرق المدفعية الثانية، لتصبح خدمة مكتفية بذاتها تحت اسم "قوة صواريخ الجيش الصيني".
واستمر مسلسل تقليص القوات البرية، ضمن خطة ترمي إلى بلوغ مليونين بحلول 2020، كما أعيد النظر في التقسيم الجغرافي القديم لمصلحة آخر جديد أكثر مركزية، يضم خمس مناطق فقط، شمالية وجنوبية ومركزية وشرقية وغربية. إضافة إلى إلغاء ألوية بأكملها من القوات البرية، وإعادة هيكلة 84 وحدة من أجل تقليص تكلفتها، وتحسين قدرتها على القيام بالعمليات المشتركة. نظير استحداث أخرى جديدة، على غرار قوة الدعم الاستراتيجي التي تمت ترقيتها مباشرة إلى مستوى خدمة أو سلاح كامل، وتتولى الوحدة الجديدة مهام الحرب الإلكترونية وحروب الفضاء.
وعدت الأمر فرصة مواتية للرئيس تشي، قصد تجديد الولاء الأيديولوجي لها، بشن حملة تطهير داخل هياكل المؤسسة العسكرية، فقد أطاحت خطة التحديث بعشرات من القادة العسكريين بتهم تتعلق بالفساد، ضمن عملية إعادة تشكيل واسعة النطاق للمناطق والإدارات والخدمات، بما في ذلك نائبان لرئيس اللجنة العسكرية المركزية، واستبدال 57 شخصا من أصل 91 من كبار قادة الوحدات والأسلحة في الجيش، بنسبة تغييرات هائلة تقترب من ثلثي شريحة القيادة العليا.
صدر مرسوم رئاسي، بالموازاة مع ذلك، يقضي بإلغاء جميع الاستثناءات بشأن نظام التقاعد على أساس السن للضباط العسكريين، وفرض التطبيق الصارم للقواعد، ما أحال عسكريين كبارا إلى التقاعد، من بينهم مفوضون سياسيون كبار، في سلاح الجو وفي البحرية وفي المدفعية الثانية... علاوة على إقرار إقالة القادة غير القادرين على العمل أو غير المؤهلين أو غير النشطين، نتيجة لدواع صحية أو لأسباب أخرى. ما أفسح الطريق أمام الرئيس الصيني لإزاحة عدد من القادة الآخرين باستخدام حزمة أسباب متنوعة ومرنة.
تمكنت الصين خلال الأعوام الماضية، بفضل الخطة الخماسية "2016 - 2020" من تأهيل الجيش، وتحقيق زيادة كبيرة في قدراتها القتالية الرئيسة. فطورت الطائرة المقاتلة الحديثة "ج 20" التي تعتمد تكنولوجيا الطيران الخفي، أي طائرات لا تستطيع الرادارات رصدها، وأنشأت ترسانة مثيرة من الصواريخ الدقيقة، وأنظمة دفاع أخرى، قوامها دمج المعلومات وتكنولوجيا الحاسوب. وأعلنت اللجنة المركزية للحزب في جلستها العامة الخامسة، في تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، الوفاء للنهج ذاته، باعتماد الخطة الخماسية 14، الممتدة ما بين "2021 و2025" واتضح الأمر أكثر بقرار بكين رفع ميزانيتها الدفاعية 2021 بنسبة 6.8 في المائة، حيث بلغت 209 مليارات دولار.
قوة عسكرية صاعدة
من نتائج تحديث الجيش الأحمر ما رصده تقرير للبنتاجون حول القوة العسكرية الصينية 2020، فأكد مثلا أن البحرية الصينية تجاوزت فعلا نظيرتها الأمريكية، بأسطول يقترب من 400 سفينة حربية، وأسطول سريع النمو من المدمرات والناقلات والغواصات. وفي تقرير سابق، هناك حديث عن أن الصين، وليست أمريكا أو روسيا، هي صاحبة أكبر قوة دبابات على وجه الكرة الأرضية بـ 6900 دبابة عسكرية ضخمة.
دراسة مركز دراسات الولايات المتحدة في جامعة سيدني الأسترالية، صدرت آب (أغسطس) 2019، تؤكد تراجع قوة الجيش الأمريكي في القارة الآسيوية، لدرجة بات فيها غير قادر على مواجهة الصين، فالجيش الصيني بمقدوره القضاء على القواعد الأمريكية في آسيا في غضون ساعات قليلة. فجميع المنشآت العسكرية الأمريكية، بما فيها التابعة لحلفائها في غرب المحيط الهادئ، في مرمى الهجمات الصاروخية الصينية الدقيقة عند بدء أي صراع مسلح.
تسير الصين نحو تعزيز موقعها في العالم بقوة ناعمة، فبعد الاستحواذ على منطقة المحيط الهادي، انتقلت إلى خطة القواعد العسكرية، التي دشنت أولاها في جيبوتي 2017، بنشرها مجموعة من القوات البحرية والمعدات في تلك القاعدة، الواقعة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. ومن المرجح أن تسعى الصين إلى بناء مزيد من المنشآت اللوجستية داخل الدول التي تربطها بها علاقات صداقة قديمة. وكان هذا الأمر متوقعا، لضمان حماية الاستثمارات الهائلة للصين في مبادرة "طريق الحرير الجديد" التي تربط أقصى العالم بأدناه.
وجبت الإشارة إلى مسألة مهمة مفادها أن سيرورة التحديث العسكري الصيني تظل رهينة ما يكشف عنه من معطيات وتفاصيل، في وقت يسود فيه تكتم كبير، كما سبق لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن حذر منه، فيما يتعلق بأرقام المبيعات ونوعية الأسلحة المهيمنة على قطاع صناعة الأسلحة في البلاد، ولا سيما أن الدولة الصينية تستخدم ما يسمى باستراتيجية "الاندماج العسكري - المدني"، حيث تقوم الجامعات بلعب دور مركزي في تعظيم القوة العسكرية، وسندها في ذلك الدستور الصيني، الذي ينص على أن جميع التقنيات الجديدة، حتى لو تم تطويرها من قبل القطاع الخاص، يجب تقاسمها مع جيش التحرير الشعبي.

الأكثر قراءة