«عالم بلا معالم»: الماضي يموت دون أن يولد المستقبل
"عالم بلا معالم"، أحدث إصدار لحسن أوريد المفكر المغربي، والناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، انكب فيه على قضايا محورية، رصدها من خلال التطور الذي أضحى يعرفه العالم، مركزا على السياسة والاقتصاد والاجتماع والقيم، كسبل يهتدي بها إلى استشراف المستقبل. ويتخذ من مقولة ابن خلدون "وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث" منطلقا، يجد القارئ في مضمونها ظل الكتاب، وكأن بوادر عالم جديد قد لاحت في الأفق.
يتحدث أوريد في مؤلفه، الذي يضم 11 فصلا غطت 345 صفحة، عن منطق الطفرات في التاريخ، وكيف أنها لا تكون سوى نقلة في سيرورة تراكم. فعلى سبيل المثال، لم يكن سقوط جدار برلين "1989" الذي غير وجه العالم سوى طفرة لعوامل اعتملت مسبقا. لكن كورونا - بحسب أوريد - هو الذي أغلق قوس ما بعد سقوط جدار برلين، دون أن تظهر معالم العالم الجديد بعد، فالمؤكد راهنا أن "الماضي مات أو يموت والمستقبل لم يولد بعد".
نقيض القتامة التي تبدو من العنوان، يراوح متن الكتاب بين التفاؤل والتشاؤم، كما يبدو من عناوين الفصول "الانتصار الواهي، حين تستيقظ الصين، روسيا في عهد القيصر، الشرق الأوسط المعقد، العالم العربي ولعنة سيزيف، الكساد الديمقراطي، الديكتاتوريات الرقمية...". وهذا ما أكده المؤلف غير ما مرة، عند الحديث عن افتقاد العالم أي مرجعية في اللحظة الراهنة، نقيض ما كانت عليه الحال دائما، حين خضعت العلاقات الدولية لمرجعية أو براديجم.
فمن "الاحتواء" إبان الحرب الباردة، إلى "نهاية التاريخ" بعد سقوط جدار برلين، ثم ما يسمى بسيادة "القيم الديمقراطية" و"نظام السوق" بانهيار الاتحاد السوفياتي. بعد انصرام ثلاثة عقود، يطرح السؤال: هل لا يزال ثنائي الديمقراطية والسوق صالحا؟ ألم يدخل في مأزق منذ أزمة 2008؟ ثم ماذا عن هدير الشعبويات اليمينية التي تجتاح الغرب من أقصاه إلى أقصاه؟
يوشك زمن القوة الأمريكية بنوعيها، الصلبة والناعمة، على الأفول أو على الأقل التراجع، فتنظيرات أمريكا في الاقتصاد كما في السياسة محل نقاش كبير، بعد انحصار خطاب حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة والديمقراطية باعتبارها مداخل للهيمنة الأمريكية. أكثر من ذلك، دخلت الديمقراطية في كساد، فالغرب الذي ما فتئ يؤكد أن الديمقراطية وحقوق الإنسان ذات طبيعة كونية، "لم يعد يقول ذلك، وأحيانا يقول النقيض".
وقد سبق لأصوات غربية - المفكر لاري دايموند مثلا - أن اعترفت بحالة الكساد في مهد الديمقراطية، خاصة بعد تحقق وقائع تثبت الالتفاف على الإرادة الشعبية ونتائج الصناديق، من خلال دعم حكم التكنوقراط عقب الحرب العالمية الثانية، وسيطرة البنيات الموازية على مقاليد الحكم داخل الدول. لكن المستجد حاليا هو بروز اتجاهات شعبوية، التي تفرغ حقيقة الديمقراطية من محتواها.
توقف الكاتب مطولا عند "استيقاظ الصين" التي عوضت الاتحاد السوفياتي، في النسخة الثانية من الحرب الباردة، لكن بأسلوب وأداء أفضل في المعركة الجيواستراتيجية. فالصين حاليا أكثر الدول استفادة من العولمة، فقد انتقلت من معمل العالم لتصبح الممول الأول للعالم. لكن تحولها إلى بؤرة تكنولوجية، أزعج واشنطن التي نظرت إليه مبكرا، في مرحلة الرئيس باراك أوباما، كخطر يهدد مصالحها، "تريد الصين أن تغير القواعد الناظمة للمنطقة التي تعرف أكبر نمو سريع في العالم. لماذا سنتركها تفعل؟ ينبغي أن نكون نحن من يكتب القواعد". وعملت خلال إدارة الرئيس ترمب على مواجهته، بفرض عقوبات تجارية، ما يرجح - بحسب حسن أوريد - فرضية استئناف الحرب الباردة، بعد تعويض بكين لموسكو في حلبة الصراع الدولي.
بروز ثنائية قطبية جديدة يثير التساؤل عن مصير الاتحاد الأوروبي، الذي عاش بداية تصدعه، منذ أزمة اليونان 2008 إلى حدود خروج بريطانيا، وبينهما هزات اجتماعية عويصة، نتيجة الإمعان في "أمركة أوروبا"، ما انتهى "بتآكل ما تراكم في أوروبا من نموذج اجتماعي، يقوم على ضمان الشغل ومحورية المرفق العمومي والدور الفاعل للنقابات". ما يعني أن الاتحاد الأوروبي لم يعد قوة مؤثرة داخل النظام العالمي. وبلغة أوريد المستوحاة من الدبلوماسي الفرنسي هوبير فيدرين، فإن الاتحاد يعيش وضعية شلل استراتيجي، أشبه بحالة جبل عظيم سفحه من صلصال. باختصار، وكما جاء على لسان إيفان كراستيف عالم السياسة البلغاري "أوروبا عملاق اقتصادي وقزم سياسي تعيش أزمة وجودية، وكآبتها مرتبطة بالخوف لا الاقتصاد".
كان للوضع العربي نصيب مهم في أكثر من فصل في الكتاب، فالعالم العربي، كما برز بعد الحرب العالمية الثانية، مقبل على تغييرات كبرى، وجامعة الدول العربية توشك على نهايتها، لمصلحة بروز أدوار دول، الزمن السعودي مثلا. ويضيف أوريد أن "العالم العربي بالشكل الذي عهدناه وتغنينا به وحلمنا به انتهى، لكن هذا لا يعني أن الديناميات العميقة في العالم العربي ستختفي، قد تتوارى أو تضمر لكن لن تنتهي". فالوضع في هذا العالم ليس في مستوى التطلعات التي كانت تحملها شعوب المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية.
في خضم تحليل الوضع العربي، يؤكد المؤلف أن العرب فوتوا فرصا تاريخية مهمة، من شأنها إخراجهم من دائرة التخلف، وتحولهم إلى قوة مالكة لزمام أمرها. وذلك عائد - من منظوره - إلى عدم الاستقلالية في العالم العربي، فلا شيء يمكن أن يتحقق من دون استقلالية القرار، واستقلالية القرار لا يمكن أن تقوم من دون حد أدنى من القواسم المشتركة.