منطق السوق .. آليات لا رغبات

 
الثقة والمصداقية هما مفتاح العمل في الاقتصاد السياسي، فتوازن الاقتصاد العالمي يقوم على المحافظة على التوازن بين العرض والطلب، وهذا التوازن في مصلحة ومسؤولية الجميع، ولا يقع على عاتق دولة واحدة. ولقد عانت السوق النفطية منذ ارتفاع الأسعار عام 2007 حتى انهيارها عام 2015 خللا في التوازن بين العرض والطلب، وتسبب ذلك في ارتباك الاقتصاد العالمي، تبعه ارتباك سياسي، ومشهد مؤلم، لا أحد على استعداد لتحمل تلك المشاهد مرة أخرى.

الدور السعودي كان كبيرا في إصلاح السوق النفطية، الذي كان في أساسه اتفاقا على مبدأ الثقة والمصداقية، ثقة الأطراف ببعضها بعضا، وأن العمل المشترك يهدف إلى ضمان توازن مستدام في المعروض من النفط لا يخل بمصالح أحد، سواء المستهلكين، أو المنتجين، كما أنه يقوم على المصداقية من جهة التزام الجميع بالاتفاق، ومن لديه تحفظات، فإن اللجان المشتركة والمنظمة للعمل يمكنها مناقشة تلك التحفظات بشفافية ومعالجة أي خلل في وقته الصحيح.

وقد نتج عن الجهود السعودية ذلك الاتفاق التاريخي بين "أوبك" من جانب، والمنتجين من خارج "أوبك" تقودهم روسيا، وتم إنشاء تحالف "أوبك +"، الذي ترنح عندما اندلعت أزمة كورونا، وانخفضت الأسعار بشكل قياسي وتاريخي لم يتمكن أحد معها من حفظ التوازن، وذلك بعدما قررت السعودية الالتفات لمصالحها وترك الجميع يعاني فقدان المصداقية في العمل المشترك.

وحينما أدرك الجميع حقيقة الوضع، وأن العودة إلى التحالف "أوبك +" هي الحل، ولتأكيد أهمية المصداقية والثقة، قدمت السعودية تنازلات مهمة لتعزيز مبدأ التخفيضات الطوعية في مقابل عدم قدرة بعض الدول على الالتزام بالتخفيض نتيجة بعض الظروف، على أن تعود هذه الدول إلى الالتزام بالتخفيضات الإضافية في وقت لاحق.

وهذه التضحيات قدمتها المملكة في وقت ذروة انكماش الاقتصاد بسبب أزمة كورونا والإغلاقات العالمية، ولو وزعنا هذه التخفيضات على فترة الاتفاقية منذ بدايتها لبلغ معدلها نحو 400 ألف برميل يوميا. تلك التضحيات بالتخفيضات الطوعية هي التي منحت الأسواق كل هذا الزخم الذي تعيشه الآن، مع روح التفاؤل التي تعم الجميع.

اتفاقية "أوبك +" نصت بشكل واضح وصريح على مناقشة تمديد الاتفاقية لما بعد أبريل 2022، والهدف هو المحافظة على توازن مستدام للسوق ومنع تذبذبها، مع الاستجابة للحاجة الآنية للسوق بإضافة كميات مناسبة من الإنتاج في الوقت المناسب. ولو كانت الأمور تجري بالتمنيات، فإن السعودية لديها القدرة على الوصول إلى إنتاج 13 مليون برميل يوميا، لكن أولوياتها ركزت على المحافظة على توازن السوق، وغلبت مصلحة الجميع على أي اعتبارات أخرى.

الثقة والمصداقية هي التي تحتم الآن مراعاة الظروف الراهنة من احتمال عودة إنتاج إيران وفنزويلا إلى السوق، وما يشهده العالم من تغيرات في تبعات جائحة كورونا، ونظرا إلى حاجة السوق إلى كميات إضافية هذه الفترة، فإن المواءمة تقتضي التدرج في زيادة الإنتاج والتعجيل بقرار التمديد، حيث إن قرار الزيادة دون التمديد سيؤدي إلى خلل كبير في توازن الأسواق خلال العام المقبل. هذا المقترح السعودي، الذي أيدته روسيا، يمثل إطارا إرشاديا واضحا للسوق، حيث يساعد على استقرار السوق ويمنع أي اضطرابات فيها، من خلال توزيع عودة كميات الإنتاج بشكل متدرج "5.8 م.ب.ي"، بمعدل 400 ألف برميل يوميا، سيؤدي إلى إتمام الكمية المتبقية في سبتمبر 2022.

ولأن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة عدم توازن عام بسبب عدم عودة الدول إلى أوضاعها قبل الأزمة بشكل متواز، فمن المتوقع مواجهة تقلبات في الطلب، ولهذا تضمن المقترح تمديد العمل بالاتفاقية إلى ديسمبر 2022، تفاديا لطلب تمديد آخر إلى ذلك الوقت، وبالتالي فإن الأمر لا يتعلق بمجرد الرغبات، بل بالثقة والمصداقية التي بناء عليها تم وضع الأسس والقواعد التي قامت عليها الاتفاقية، وهناك حوكمة وضوابط يتم من خلالها دراسة الطلبات والتحفظات، وفقا لأسباب ومعطيات منطقية، ومن هنا رأينا إجماع دول "أوبك +" على تأييد المقترح، بينما تحفظت الإمارات فقط، ولكل دولة الحق في إبداء اعتراضها وتحفظها، لكن وفقا للآلية المتبعة والمتفق عليها التي يتم تحديثها بحسب متغيرات السوق والعرض والطلب، وبما يحقق مصلحة المنتجين والمستهلكين.

ومن المؤكد أن الخروج عن هذه القواعد والترتيبات التي ضمنت استقرار السوق حتى الآن وتجاوز مأزق كوفيد - 19، قد يقود إلى خلل كبير في توازن الأسواق خلال العام المقبل تصعب معالجته لفترة زمنية طويلة، ولو حدث ذلك، فإن العودة بالثقة أمر قد لا يتم إنجازه دون تنازلات مؤلمة ممن يطلب الخروج عن تلك القواعد الآن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي