«عن بعد» .. طمس الحدود بين حياة العمل وحياة المنزل

«عن بعد» .. طمس الحدود بين حياة العمل وحياة المنزل
يتوقع أن يقود هذا التحول إلى مضاعفات اقتصادية لا يمكن اغفالها.

تعود الحياة إلى إيقاع ما قبل زمن كورونا، وبدأت الأسئلة تتوالى بشأن مصير "مكتسبات" حقبة الطوارئ الصحية، هل يحتفظ بها وتصير جزءا أصيلا من النظام اليومي؟ أم يستغنى عنها، بعد أن تحقق المقصد من ورائها، بضمان استمرارية الأنشطة الأساسية للعيش، في زمن الجائحة، ما يوجب تباعا سقوطها بانعدام الضرورة التي فرضتها.
يذكر أن بدايات "العمل عن بعد" سابقة لحدث كورونا بزمن طويل، وشكل على الدوام استثناء، إلى أن جاءت واقعة كورونا التي حولته إلى جعله قاعدة، وجعل الذهاب إلى المكاتب هو الاستثناء، حتى قيل إن كورونا سيفضي إلى اختفاء المكاتب.
تعد ثورة العمل عن بعد إحدى مكاسب زمن الوباء، التي بدأ النقاش يتسع بشأن إمكانية استمراريتها، فهل بلغ التطبيع مع هذا الأمر مستوى اعتباره طبيعيا؟ ولا سيما أن الأغلبية لا ترغب في العودة إلى ثالوث "المواصلات والعمل والنوم". لكنها في الوقت ذاته، بدأت تستشعر تهديدا كامنا لنمط عيشها، في ثنائية "العمل والنوم". واتخذ النقاش أبعادا أخرى، بأسئلة من قبيل: لماذا نريد العودة إلى حالة الوضع الراهن من الإدمان على العمل عندما يمكن تحقيق الهدف النهائي بطريقة مختلفة، بطريقة داعمة للعافية والإنتاجية والبيئية المستدامة؟
يكتشف المتابع للسجال الدائر حول الموضوع أن كل فصيل، وهو يترافع عن طرحه، لا يقدم سوى جانب من الحقيقة فقط، بينما حيثيات المسألة أعقد بكثير من التأييد الكلي أو الرفض المطلق، لتداخل واشتباك اعتبارات متنوعة في الموضوع، تراوح ما بين الإنساني والاقتصادي والبيئي والاجتماعي والثقافي..

في مديح العمل عن بعد

تتجه سوق الشغل عالميا نحو تجاوز قواعد الرأسمالية الصناعية الكلاسيكية، حيث يبيع الأجير قوته العاملة، بالمعنى المادي للكلمة، لعدد معين من الساعات. وكان الأصل أن تتناسب كمية الثروة المنتجة مع عدد الساعات التي يقضيها الأجراء في المصنع. قاعدة التناسب تلك لم تعد قابلة للانطباق على الرأسمالية المعرفية، ما يعني الاستعاضة عن نظام العمل التقليدي، مثل مواعيد الدوام "الدخول والخروج" بنظام تتبع وقياس النتائج التي يتم تحقيقها.
بيئيا يظهر العمل عن بعد حلا سحريا لدوائر متقاطعة في الأزمة البيئية، فخطورة كهذه بمقدورها إنهاء متوالية من المشكلات، بدءا من تقليل استخدام المواد البلاستيكية "الأطعمة والأشربة..."، وتخفيف التكاليف المرتبطة بمكاتب العمل "الورق والطباعة والكهرباء ..."، وصولا إلى الحد من التلوث بتقليص حجم التنقل اليومي، في وسائل النقل العامة أو بالسيارات الخاصة، من مقار العمل وإليها، مع ما يعنيه ذلك من ازدحام وحوادث وضوضاء وانبعاثات كربونية...
زيادة على ذلك، يتوقع أن يكون الانتصار للعمل الافتراضي بعدما أضحى ممكنا من الناحية التكنولوجية، ولا سيما بعد ظهور الإنترنت عالية السرعة، باعثا لوقف تشييد مبان جديدة مليئة بالمكاتب، تقلص من المساحات الخضراء، وتستهلك كثيرا من الطاقة للإضاءة والتكييف والتدفئة وغيرها. ويذهب المتفائلون جدا حد التبشير بموجات "نزوح جماعية من المدن"، بعد انتشار واتساع قاعدة العاملين بفكرة العمل عن بعد.
لدى الشركات يعد هذا الاختيار فرصة ذهبية للراغبين في تخفيض حجم الإنفاق، خاصة ما يتعلق بميزانية إدارة وتدبير أماكن العمل. كما يتيح هذا التوجه إمكانية التعاقد مع يد عاملة دون التقيد بالمحدد الجغرافي، فالمعيار هنا هو الكفاءة والمهارة، وليس القرب أو البعد من مقر العمل، ما يمهد لتقليص عوامل التمييز التقليدية من خلال تحقيق المساواة في الولوج إلى سوق الشغل أمام الجميع.
ويبقى بالنسبة إلى الأفراد طريقة مثلى للعمل المرن، حيث تتيح إمكانيات إعادة تدبير "الجدول الزمني" بنوع من الحرية، إذ بالإمكان أداء بعض الأعمال في أوقات خارج وقت العمل المعتاد، في المقابل تستخدم أوقات العمل المعتادة للراحة أو إنجاز أمور خاصة وشخصية.

أعطاب العمل الافتراضي

في غمرة الانتشاء بتسويق ثورة العمل عن بعد، أجرى خبراء أمريكيون تقييما لأكثر من 800 وظيفة في العالم، قصد تحديد تلك التي تقبل الإنجاز عن بعد. وكانت النتائج التي توصلوا إليها أن ما يصل إلى 37 في المائة فقط من الوظائف في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن تأديتها من المنزل. فإذا كان بالإمكان إنجاز نحو 97 في المائة من الأعمال القانونية، و88 في المائة من الوظائف في مجال الأعمال والتمويل عن بعد. فإن ذلك غير ممكن سوى بنسبة 3 في المائة فقط لوظائف قطاع النقل، وعند حدود 1 في المائة في قطاع الزراعة والصيد وقطاع إدارة الغابات.
وبقدر ما يسوق تدبير "الجدول الزمني" كامتياز في العمل عن بعد، لما يوفره للعمال من ساعات أكثر، مما كانت تتوافر لهم حين كانوا يذهبون إلى المكاتب. فإنه يؤسس في المقابل، لجدول زمني متعدد المستويات، حيث تتداخل فترات العمل مع تدبير الشؤون الأسرية والخاصة، إذ يمكن العمل وإرسال رسائل البريد الإلكتروني، والانشغال بالمطالعة أو ممارسة الرياضة أو طهي الطعام.. بشكل متزامن أو متداخل.
أكثر من ذلك، يقود هذا الاشتباك إلى تعدي "الجدول الزمني" نحو "الزمن المفرط" في العمل، حيث تصبح رسائل الهاتف ورسائل البريد الإلكتروني التي نتلقاها أوامر حقيقية، حتى وإن كانت لا تبدو كذلك لكثيرين، علاوة على طمس الحدود بين حياة العمل وحياة المنزل، فلا إشارة واضحة تفيد التوقف عن العمل، ما يولد حيرة بشأن تقسيم الوقت، وسيكون لهذا الأمر تداعيات أقلها تكرار ظاهرة "كاروشي" اليابانية، التي تعني الموت المفاجئ الناتج عن العمل لفترات طويلة تحت ضغوط هائلة، بسبب نوبات قلبية أو سكتات دماغية أو اكتئاب يعزز الرغبة في الانتحار.
على صعيد آخر، يتوقع أن يقود هذا التحول الذي يبدو براقا للوهلة الأولى، إلى مضاعفات اقتصادية لا يمكن إغفالها، فمن شأن هذه الثورة في العمل أن تؤدي إلى فقدان مزيد من الوظائف، ولا سيما أن الانخراط الكلي في هذا التوجه، سيدفع إلى تقليص كثير من أحجام الأعمال في الشركات، كما أن آثاره السلبية تمتد لقطاعات عديدة "القطاع العقاري، الخدمات اللوجستية، الصيانة والأمن، صناعة الأدوات والأجهزة المكتبية..."، ما يصب في اتجاه فقدان مزيد من الوظائف.

الأكثر قراءة