كوبا .. هل تتداعى آخر قلاع الشيوعية؟
تشهد كوبا منذ أسابيع مظاهرات شعبية غير مسبوقة ضد الحكومة، احتجاجا على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في آخر معاقل الشيوعية في العالم، فقد أدى تفاقم الأوضاع إلى إحدى أسوأ أزمات نقص المواد الغذائية، منذ ربع قرن، علاوة على الفشل في التعامل مع جائحة فيروس كورونا المستجد، ما أفضى إلى موجات غضب، عمت منصات التواصل الاجتماعي، وأسهمت في حشد الرأي العام الكوبي، فترجم الفعل الاحتجاجي إلى سلوك، تمثل في مسيرات احتجاجية غطت معظم المدن الكوبية.
شكلت هذه المظاهرات مشهدا لا مثيل له في كوبا، منذ ثورة 1959 التي أطاحت بالعقيد فولجنسيو باتيستا حاكم البلاد، المدعوم من جانب الولايات المتحدة الأمريكية طيلة 18 عاما، بعد استيلائه على الحكم بفضل ثورة العرفاء 1933. وأسست لنظام شيوعي بقيادة الزعيم فيدل كاسترو، الذي حكم لنحو نصف قرن من الزمن، قبل أن يسلم السلطة 2006 إلى شقيقه راؤول كاسترو، الذي غادرها بعد 12 عاما، معلنا في 18 نيسان (أبريل) 2018 نهاية ستة عقود من حكم آل كاسترو.
حاول النظام في كوبا التعتيم على الاحتجاجات، بالإنكار تارة والتجاهل تارة أخرى، أو على الأقل التبخيس، بعدما فشل في مراقبة شبكة الإنترنت، وضبط منصات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تابع العالم مقاطع مصورة، توثق لمواجهات عنيفة بين عناصر الجيش وجموع المحتجين، ما دفع وزير الخارجية إلى التصريح في مؤتمر صحافي بأن الأمر "اضطراب على نطاق محدود للغاية.. البلاد تمر بظروف طبيعية تماما".
الإنكار بات بلا جدوى أمام تطور الأوضاع في الدولة، ما اضطر الرئيس الكوبي ميجيل دياز كانيل إلى الاعتراف بوجود احتجاجات، محذرا المتظاهرين من أن "الثورة الكوبية لن تدير الخد الآخر لأولئك الذين يهاجمونها في مساحات افتراضية وحقيقية.. سنتجنب العنف الثوري، لكننا سنقمع عنف الثورة المضادة". عزز هذا التحذير باستنفار أنصار النظام الشيوعي للخروج، مطالبا "كل ثوار الدولة، كل الشيوعيين، بالخروج إلى الشوارع والتصدي للاستفزازات بكل حزم وشجاعة". فاللحظة لحظة الدفاع عن النظام "لقد صدرت الأوامر بالقتال، إلى الشوارع أيها الثوريون"، والتصدي لواشنطن التي تعتمد "سياسة الخنق الاقتصادي" لزعزعة استقرار الدولة.
استعان النظام في هافانا - إضافة إلى أسلوب التحريض - بالحرب الإعلامية، فمنذ اندلاع الأزمة لم تتوقف وسائل الإعلام الكوبي عن توزيع الاتهامات، وكيل أبشع النعوت للمتظاهرين، فهم خونة ومرتزقة وعملاء.. يخدمون الأجندة الأمريكية والغربية. وكان في رفع المحتجين شعار ''الحرية والوطن والحياة'' في مواجهة شعار الحزب ''الوطن أو الموت'' رسالة لا تخفى دلالاتها بالنسبة إلى مآل هذه الأزمة.
أطلقت الشرطة الكوبية حملة اعتقالات واسعة، فأعداد الموقوفين تقدر بمئات، حسب إفادة منظمات محلية، شملت نشطاء ومعارضين وحقوقيين وصحافيين.. وفي لائحة الموقوفين رموز المعارضة أمثال خوسيه دانيال فيرير رئيس الاتحاد الوطني الكوبي والمنشق مانويل كويستا موروا وبيرتا سولر زعيمة مجموعة "سيدات بالأبيض"، إضافة إلى الصحافية كاميلا أكوستا، وأوقفت عناصر الأمن دينا ستارز الناشطة الكوبية في منزلها أثناء حديثها على الهواء مباشرة خلال برنامج تلفزيوني مع قناة إسبانية.
توظيف الحزب الشيوعي كل هذه الأوراق دفعة واحدة "الاعتقال، الإعلام، الأنصار..."، يساعد على تقدير حجم الخطر المحدق به. فما يحدث - بحسب إرنستو هيرنانديز بوستو الكاتب الكوبي المنشق - "نهاية حقبة ساد فيها خوف عميق.. ما يجري يمثل تحولا هائلا". فيما عده آخر "لحظة فاصلة"، مؤكدا أن هذه "المرة الأولى منذ 62 عاما التي نرى فيها احتجاجات غير محلية.. إذا لم تتمكن الحكومة من السيطرة على الأوضاع الاقتصادية والصحية، فلا نعلم كيف ستتطور الأزمة في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر".
يصعب فعلا توقع مآلات الأوضاع، في ظل تداخل ثلاثة مؤشرات، اقتصادية وصحية وسياسية في صميم الأزمة الكوبية، أولها، تراجع الاقتصاد الكوبي بنسبة 11 في المائة، مقارنة بالعام الماضي، وذلك مع تراجع غير مسبوق لإنتاج السكر الذي يعد السلعة الرئيسة للتصدير، ما فاقم النقص الحاد في المواد الغذائية والأدوية، وحتم على الحكومة تقليص عدد ساعات توزيع التيار الكهربائي في اليوم، خاصة بعد توقف المساعدات النفطية الفنزويلية.
ثانيها، تفاقم الوضع الصحي في الدولة، مع تسجيل أرقام قياسية، يوما بعد آخر، في أعداد الإصابات والوفيات الناجمة عن فيروس كورونا، ففي اليوم الواحد تم إحصاء 7745 حالة جديدة، ليرتفع مجموع الإصابات إلى 308491، فيما بلغت حالات الوفاة 65 حالة، ليكون إجمالي الوفيات في البلاد 2137 حالة.
وآخرها، تآكل شرعية النظام الشيوعي بسبب غياب فيدل كاسترو، فرمزية وكاريزما وتاريخ ونضال الرجل لا يتمتع بها الرئيس الحالي ميجيل دياز كانيل، ولا حتى أخوه راؤول كاسترو صاحب المشروعية التاريخية، الذي سارع إلى حضور اجتماع المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي، بعد اندلاع الأزمة، رغم تقاعده قبل عدة أشهر.
رأى مراقبون أن ما يجري في كوبا أشبه ما يكون بأحداث دول أوروبا الشرقية، نهاية حقبة الثمانينيات، فمطالب وشعارات المحتجين ترمي إلى إسقاط الحزب الشيوعي الكوبي، وتفكيك تركة الزعيم الشيوعي فيدل كاسترو، بعد أن تفاقمت حالة الانسداد العام التي تشهدها الدولة، جراء عقود من محاولات تطبيق النظام الاشتراكي في تدبير شؤون الدولة.
كما أن الأزمة الكوبية تجلي معضلة الشرعية عند اليسار في العالم، وعلى وجه التحديد أمريكا الجنوبية، من الاستناد إلى السردية الثورية بمشمولاتها كافة الخطابة والشعوبية والعاطفة، لتورية الفشل السياسي، والتغطية على الإخفاق الاقتصادي، وحجب المعضلات الاجتماعية، علاوة على عجز معظم تجارب اليسار في العالم عن ربط الشرعية بالديمقراطية.