العلاقة الأمريكية ـ الألمانية .. فن التسويات بطريقة راقية

العلاقة الأمريكية ـ الألمانية .. فن التسويات بطريقة راقية
العلاقة الأمريكية ـ الألمانية .. فن التسويات بطريقة راقية
ألمانيا وأمريكا.. مساران متوازيان يلتقيان أو يفترقان في محطات معينة.

إن زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الوداعية للبيت الأبيض هذا الشهر تعد فرصة مثالية للتفكير مليا في حالة العلاقات الأمريكية - الألمانية، لكنها ليست فرصة عاطفية، حيث ربما أن هذا التاريخ الطويل والمعقد من العلاقات الثنائية على وشك الدخول في مرحلة جديدة.
لقد رعت الولايات المتحدة الأمريكية إعادة إعمار ألمانيا ونهضتها الاقتصادية منذ الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى إعادة توحيد ألمانيا 1990. إن هذه الحقبة يمكن تلخيصها تحت عنوان "الوصاية والرعاية" التي كانت أكثر حظا بكثير من الفصل السابق "العداء والحرب". بحسب ما يطرحه يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من 1998 إلى 2005، كان زعيما لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاما.
في ذلك الفصل فإن سعي ألمانيا الحثيث للسيطرة العالمية في حربين عالميتين وحشيتين أدى في نهاية المطاف إلى هزيمتها هزيمة كاملة وساحقة. لقد أدى انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية إلى تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق احتلال، كما تمت خسارة أجزاء كبيرة من مناطقها الشرقية، وكانت النتيجة 12 مليون شخص من اللاجئين والمطرودين، وفي أماكن أخرى كانت هناك الهاوية الأخلاقية لإرث النازيين الوحشي.
نظرا إلى أن إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت على الحماية والمساعدات الأمريكية، فلقد شملت بشكل حصري أوروبا الغربية وهذا يعني ألمانيا الغربية فقط. لقد نظر جوزيف ستالين إلى الاتحاد السوفياتي المتمثل في روسيا الكبرى الاشتراكية على أنه نظير الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ أواخر أربعينيات القرن الماضي فإن هذا الموقف الأيديولوجي والجيوستراتيجي أدى إلى استدامة الحرب الباردة التي دارت رحاها إلى حد كبير في ألمانيا خاصة في برلين التي كانت تعد النقطة المركزية للمواجهة بين القوى العظمى الجديدة.
لقد انتهت محاولتي ألمانيا للسيطرة والهيمنة على أوروبا والعالم بالهزيمة، وحل مكان تلك المحاولات تحالف وثيق بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية ألمانيا الاتحادية. لقد استمر وجود انعدام الثقة السياسي إلى حد ما من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الألمان المؤمنين بالشراكة عبر الأطلسي رفضوا أن يقروا بذلك، وحسب وجهة نظرهم، حل التحالف "الذي ضم العنصر العسكري وتأسيس حلف الناتو" محل جميع أشكال الكراهية السابقة، وإن ما حدث سابقا قد انتهى.
لقد كانوا مخطئين، فخلال الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني استراتيجية متعددة الجوانب متمثلة في ردع الاتحاد السوفياتي والمحافظة على سيطرتها على ألمانيا، وذلك إقرارا بموقعها الحيوي في قلب أوروبا. إن العلاقة عبر الأطلسي لم تكن أبدا بالبساطة التي أرادها أبطالها، وهذا الطرح لا يزال ينطبق على الوضع الحالي.
من الناحية المعيارية، فلقد تم دمج جمهورية ألمانيا الاتحادية بنجاح بالغرب بطريقة أو بأخرى مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي ظل كونراد أدينايور أول مستشار لها بعد الحرب، لكن من حيث المصالح المجردة والاقتصاد السياسي لا تزال هناك اختلافات جوهرية، فمنذ منتصف خمسينيات القرن الماضي على سبيل المثال فإن التصور القائم على أساس الشراكة عبر الأطلسي كان يتنافس مع تصور يركز على أوروبا بشكل أكبر، ومع سياسة المستشار الألماني ويلي برانت التي كان يطلق عليها اسم السياسة الشرقية في سبعينيات القرن الماضي - التي تزامنت مع الانفراج الناشئ بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي - أصبحت المصالح المتباينة بين الحامي وبين من يتلقى تلك الحماية والوصاية أكثر وضوحا.
مهما يكن من أمر فإنه عندما انهار الاتحاد السوفياتي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأطلسية الوحيدة التي عبرت عن دعمها الفوري والكامل لإعادة توحيد ألمانيا. بالنسبة إلى جارات ألمانيا الأوروبيات فإن إمكانية عودتها كقوة جيوسياسية أعادت مخاوف قديمة تتعلق "بالمسألة الألمانية".
عندما أصبحت ألمانيا دولة كاملة ذات سيادة من خلال إعادة التوحيد، تغيرت بالضرورة العلاقة بين الحامي ومن يحظى بتلك الحماية، ومع ذلك لم تغير ألمانيا عقلية ما بعد الحرب العالمية الثانية. لو نظرنا إلى القوى الأوروبية التي تماثل ألمانيا حجما، لوجدنا أن المملكة المتحدة وفرنسا هي قوى نووية ولديها مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي، حيث لا تتردد الدولتان في المطالبة بدور قيادي عالمي، لكن على النقيض من ذلك فإن ألمانيا - رابع أكبر اقتصاد في العالم على مستوى الدول - لا تقوم بمثل تلك المطالبات.
وعليه ستبقى ألمانيا تعتمد على الضمان الأمني للولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة مقبلة. إن ألمانيا لا يطاردها شبح تاريخها فحسب، بل يجب عليها أيضا أن تتعامل مع ظروف أمنية معقدة للغاية. إن موقع ألمانيا الكائن في قلب أوروبا يعني أن على ألمانيا أن تضع في الحسبان مصالح الدول الأصغر في وسط وشرق أوروبا - سواء ضمن الاتحاد الأوروبي أو خارجه - بينما في الوقت نفسه يجب عليها أيضا أن تتعايش مع روسيا النووية ذات النزعة التوسعية المتزايدة، علما بأن على ألمانيا عمل كل ذلك في وقت تعاني فيه أسسها الاقتصادية التصدع.
إضافة إلى ذلك، يجب على ألمانيا أن تضع في الحسبان المصالح الاستراتيجية لحاميها وحتى لو كانت تلك المصالح لا تتطابق دائما مع مصالحها. إن الولايات المتحدة الأمريكية منخرطة في مواجهة متصاعدة مع الصين، القوة العالمية الجديدة في القرن الـ21، لكن الصين هي واحدة من أهم الحلفاء التجاريين لألمانيا والأهم من ذلك الاتحاد الأوروبي، حيث تلعب ألمانيا دورا مهما في تشكيل مستقبل ذلك الاتحاد. إن الدبلوماسية الألمانية هي بالفعل مسألة معقدة للغاية.
بعد رئاسة دونالد ترمب التي أحدثت ضررا أكبر في العلاقات الأمريكية الألمانية مقارنة بأي شيء آخر منذ الحرب العالمية الثانية، السؤال الذي يواجه الرئيس جو بايدن هو إذا ما كان باستطاعة الولايات المتحدة الأمريكية أن تستعيد ثقة حلفائها.. ماذا سيحصل لو عادت حقبة ترمب - سواء مع ترمب نفسه أو مع أحد أعوانه الطموحين؟
بالنسبة إلى ألمانيا فإن هذا السؤال هو أهم بكثير من أي اعتبارات أخرى في الأعوام المقبلة. إن العلاقة بين الحامي والطرف الذي يتمتع بتلك الحماية والوصاية لم تعد تعمل، لكن لا تستطيع ألمانيا أيضا أن تؤسس لدور مستقل تماما لها ضمن إطار أوروبي، والأسوأ من ذلك أن الاختلافات في المصالح - بداية مع الصين وروسيا - ستجلب مزيدا من الخلافات والاحتكاك بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. إن المرء ليأمل أن المرحلة المقبلة من العلاقات الثنائية سيحددها فن عمل التسويات بطريقة راقية.

الأكثر قراءة