الأرض تحترق .. هل يتأقلم الإنسان مع ما صنعت يداه؟

الأرض تحترق .. هل يتأقلم الإنسان مع ما صنعت يداه؟
يرجح أن تحظى ظاهرة 'اللجوء المناخي'؛ بالاعتراف والتضمين في القوانين الدولية مستقبلا.

لا يزال العالم غارقا في أتون حرب ضروس ضد جائحة كورونا، قبل أن يأخذه، على حين غرة، فصل جديد من فصول الأزمة المناخية، تمثل في موجات من الحرائق الهائلة، امتدت إلى كل أصقاع الأرض، خلال تموز (يوليو) المنصرم، الذي عرف تسجيل مستويات قياسية في درجة الحرارة. فقد عد ثاني الأشهر الأعلى حرارة في القارة الأوروبية على الإطلاق، وثالث الأشهر حرارة على الصعيد العالمي.
كان كوكب الأرض على موعد مع شهر مستمر من الحرائق، فكرونولوجيا الأحداث تفيد بأن ألسنة النيران ظلت مشتعلة، من الشرق نحو الغرب بدون توقف، لعدة أيام حتى لأسابيع أحيانا، في غابات في دول في آسيا وإفريقيا وأمريكا. وسجل تقرير للأمم المتحدة حول تغير المناخ، صدر الإثنين الماضي، أن حرائق الغابات المدمرة لهذا العام حطمت أرقاما قياسية.
غابات العالم تحترق
اندلعت الحرائق في أكثر من رقعة جغرافية على كوكب الأرض، بدءا من روسيا التي أعلنت تسجيل أكثر من 550 حريق غابات موزعة على أكثر من 1600 نقطة حرارية، بما في ذلك حرائق في مدينة ياكوتسك شمالي روسيا، صاحبة لقب أبرد مدينة في العالم، التي فقدت عشرات آلاف من الهكتارات الغابوية، بما فيها محميات طبيعية في أوليوكما ولينا بيلارز المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو.
شهدت تركيا بدورها اندلاع نحو 200 حريق بشكل منفصل في أرجاء البلاد، استمرت لـ12 يوما، لم تنفع أحدث الوسائل والتقنيات في تطويقها، إذ لم تجد الحكومة سبيلا غير قطع الأشجار لمنع انتقالها، بعدما دمرت ما يفوق 100 ألف هكتار من الغابات، وأدت الأمطار الغزيرة في شمال البلاد إلى فيضانات، أودت بحياة 40 شخصا على الأقل، في أسوأ كارثة بيئية تعرفها البلاد منذ عقود.
غير بعيد، عرفت اليونان، جارتها في الشمال الشرقي، مئات الحرائق التي تسببت فيها موجات الحر التي تعيشها البلاد، حيث سجلت منطقة فثيوتيس وسط البلاد، أعلى درجة حرارة على الإطلاق "46.3 درجة مئوية"، وساعدت الرياح القوية على انتشارها، حتى تجاوزت 580 حريقا. داخليا، تتزايد المخاوف من تكرار فاجعة 2018، حين قتلت أكثر من 100 شخص جراء ما عرف بـ"حرائق أتيكا"، في إشارة إلى منطقة أتيكا اليونانية، التي كانت ثاني أخطر حريق غابات في هذا القرن عقب حرائق "السبت الأسود" في أستراليا 2009 التي تسببت في مقتل 173 شخصا.
إيطاليا بدورها لم تسلم من النيران، بعدما سجلت منطقة سيراكيوز في مدينة صقلية رقما قياسيا جديدا "48.5 درجة مئوية"، ما تسبب في حرائق في جنوب البلاد، دفعت حكام بعض الولايات إلى إعلان حالة الطوارئ، خاصة مع وجود تحذير من تحرك إعصار مضاد، نحو مدن الوسط والشمال، يزيد من حدة موجة الحر التي تجتاح البلاد.
جنوب المتوسط، في تونس نشب 155 حريقا، في مرتفعات وغابات في شمال ووسط البلاد، ما أدى إلى خسائر مادية كبيرة، بعدما أتت على ما يزيد على 150 هكتارا من الغابات. لكن الكارثة في الجزائر التي فقدت 69 شخصا، على الأقل، بينهم 28 جنديا، بسبب حرائق، اجتاحت 18 محافظة في البلاد، واستمرت لعدة أيام قبل السيطرة عليها.
من حرائق غابات عكار في لبنان إلى مستشفى الحسين في محافظة ذي قار في العراق، فخزان البتروكيماويات في منشأة أمير كبير جنوب إيران، مرورا بنيران متفرقة في غابات في ولايات أريجون وأيداهو وألاسكا ومينيسوتا في الولايات المتحدة، وصولا إلى حرائق في إقليم كتالونيا شمال غربي إسبانيا، وأخرى في غابات وسط وجنوب بلغاريا، وفي أقصى شمال فنلندا... ندرك أن كوكب الأرض قطعا ليس بخير، وأن العالم يحترق في غفلة من الجميع.
اللجوء المناخي قادم
تعد حرائق الغابات في فصل الصيف أمرا طبيعيا، بل وضرورية في بعض الأحيان، لتحقيق التوازن البيئي في الغابات. وبحسب العلماء يكون لها أثر إيجابي، إذ تتجدد النباتات، ما يعزز التنوع البيولوجي في هذه المناطق. وقد استطاعت المجتمعات التي تعيش في المناطق الغابوية التكيف بشكل أفضل مع المتوسط السنوي للحرائق، في المناطق الحارة والجافة في جميع أنحاء العالم.
لكن ظهور حرائق في غابات غير واردة في خريطة التوقعات، كما وقع في الأعوام الأخيرة، في مناطق في شمال ووسط أوروبا، دفع بالخبراء في البيئة والمناخ إلى البحث عن الأسباب وراء ذلك. وجاءت النتائج غير سارة مطلقا، سواء ما يتعلق بوتيرة اندلاع هذه الحرائق التي ارتفعت بشكل غير مسبوق، أو من جهة قطع الشك باليقين بشأن صلتها الوطيدة بمسألة التغير المناخي، فقد تأكد أن ارتفاع درجة الحرارة عامل رئيس في حرائق الغابات شديدة الخطورة.
تسجل الأبحاث أن الارتفاع الحالي في درجات الحرارة يفوق مقدار ما تم تسجيله خلال 800 ألف عام. وإذا كان الإنسان، على مر العصور، قادرا على التكيف مع تقلبات الطقس والدورات الطبيعية في المناخ، ليبقى السؤال اليوم عن كيفية تأقلم الإنسان مع التغييرات "غير الطبيعية" في المناخ التي صنعها بيديه. فقد أدى الاحترار العالمي، حتى الآن، إلى ارتفاع حرارة الكوكب بـ1.1 درجة مئوية.
ما سبق، يفيد توقع الأسوأ في موضوع حرائق الغابات، وكذا في انبعاث الغازات الدفيئة على مستوى العالم، فحرائق سيبيريا وحدها أنتجت 188 ميجا طن من الكربون، وهو ما يعادل نحو 505 ميجا طن من ثاني أكسيد الكربون. رقم يساعد على إدراك مدى صعوبة الحياة على الأرض، وهذا ما يؤكده تقرير منظمة Carbon Brief الخاصة بالمناخ، إذ تتسبب حرائق الغابات فيما بين 5 إلى 8 في المائة، من إجمالي حالات الوفيات المبكرة سنويا الناجمة عن تلوث الهواء، البالغة 3.3 مليون حالة وفاة.
يرجح أن تحظى ظاهرة "اللجوء المناخي"، بالاعتراف والتضمين في القوانين الدولية مستقبلا، نتيجة الارتفاع المستمر في أعداد اللاجئين سنويا لدواع مناخية. وتقارير مركز مراقبة النزوح الداخلي في العاصمة السويسرية جنيف، تفيد بأن عدد النازحين جراء الحروب والعنف 2020، كان عند حدود 9.8 مليون شخص. فيما حركت التغيرات المناخية، أزيد من 40.5 مليون شخص في العالم. من جهته، يحذر البنك الدولي من أن استمرار التغير المناخي بالإيقاع ذاته، قد يفضي، بحلول منتصف القرن الحالي، إلى وجود 180 مليون نازح بسبب المناخ.
يسود الإجماع بين خبراء المناخ وعلماء البيئة بأن الأمور تسير بشكل أسوأ مما كان متوقعا في الماضي، وأن التقدم التقني للحضارة الإنسانية أوصلها إلى نقطة اللاعودة في قضية المناخ، إذ تسبب عمليا في وصول الاحترار إلى مستويات خطيرة تهدد الوجود البشري بأكمله.

الأكثر قراءة