دعم الفقراء .. ريادة الأعمال تعزز الرخاء الاقتصادي
لا يوجد خبير اقتصادي أيا كانت المدرسة الاقتصادية التي ينتمي إليها إلا ويقر بضرورة تقديم الدعم للفئات الفقيرة في المجتمع. وفي الأغلب ما يسوغ الدعم الاقتصادي بأنه جزء لا يتجزأ من الحقوق المجتمعية للفقراء، وينظر إليه كإحدى الآليات الاقتصادية للحفاظ على السلم والأمن الاجتماعيين، والإبقاء على وحدة وتماسك المجتمع. كما يؤكد جل الاقتصاديين أيضا، أن للدعم انعكاسات إيجابية على المستفيدين منه وعلى الاقتصاد الوطني ككل، عبر انتشال تلك الفئات المطحونة من براثين الفقر.
مع هذا فإن الخلاف بين المنظرين الاقتصاديين والمدارس الاقتصادية المختلفة بشأن الدعم لا يزال كبيرا للغاية، ويمثل إحدى نقاط الخلاف الرئيسة بينهما، ولا يتعلق الأمر بقيمة الدعم الواجب منحه أو الحد الأدنى له، وهذا في الأغلب ما يكون محل خلاف أيضا، لكن الأكثر أهمية أن الخلاف يدور في الأغلب حول طبيعة الدعم المقدم من الدولة للفقراء.
والسؤال الرئيس لا يزال قائما حتى الآن، هل الدعم عبر تشكيلة من السلع والخدمات أو ما يعرف بالدعم العيني أفضل أم أن الدعم النقدي سيحقق مستوى أعلى من الرفاهية للفقراء؟ ويضمن أيضا للدولة عدم إهدار مواردها.
لا شك أن فكرة الدعم النقدي بسيطة وجذابة، منح الفقراء مالا ينتشلهم من الفقر، وفي الواقع فإن تلك الاستراتيجية تستخدم بشكل متزايد في كل من الدول ذات الدخل المنخفض والمرتفع على حد سواء لمساعدة الفقراء، ويلاحظ أيضا أن المنظمات الدولية مثل البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تقوم بتمويل مزيد من المشاريع التي تركز على منح الأموال للفقراء أو عبر الدعم النقدي المباشر لهم.
في هذا السياق تعد المكسيك، البرازيل، وكينيا دولا رائدة في مجال الدعم النقدي، ونفذت جميعها برامج طموحة في هذا الشأن، بل إن الولايات المتحدة ذاتها تقوم بتجربة مزيد من المدفوعات النقدية. فحزمة الإغاثة الأمريكية للرئيس بايدن والبالغة 1.9 تريليون دولار، ستمنح مدفوعات متكررة لمعظم العائلات التي لديها أطفال.
باختصار يحظى الدعم النقدي بإجماع متزايد بأنه أفضل أداة لمكافحة الفقر، وبالفعل فقد تم رصد كثير من الأدلة على أن التحويلات النقدية لها آثار إيجابية على الأشخاص خاصة الذين يعيشون تحت خط الفقر، لكن هل يصح تعميم ذلك وجعله قاعدة عامة يعد الخروج عليها أمرا غير صحيح، أو اتهام الدعم العيني بالسلع والخدمات بأنه لا يفيد الفقراء كثيرا أو يتسبب في إهدار المال العام.
وإذا كانت التجربة قد أثبتت أن الدعم النقدي أفضل من نظيره العيني، بل أقل سلبية على الميزانيات العامة للدول والحكومات فلماذا يتردد البعض في تجربته.
تشارلز اينجلبيرت الخبير الاقتصادي في الأمم المتحدة، يرى أن الانحياز العام لفكرة الدعم العيني يعرب جزئيا عن قلق الحكومات من أن المستفيدين من الدعم النقدي ربما يهدرون الأموال في شكل من أشكال الإنفاق غير الرشيد، فالفئات المتلقية للدعم في الأغلب ما تكون مستوياتها التعليمية منخفضة، ولديها حرمان اقتصادي ممتد لأعوام، ومن ثم فإن الدعم النقدي ربما يوجه للإنفاق على الترف الاجتماعي وليس على الأساسيات، إذ ربما يفضلون شراء تلفزيون متطور أو سجائر وربما غير ذلك بدلا من لوازم المدرسة أو الطعام.
ولهذا قامت بعض الهيئات التشريعية الأمريكية بمنع استخدام أموال المعونات في الذهاب إلى السينما أو عمل وشم أو تقليم الأظافر في المحال المخصصة لذلك أو القيام بشراء ملابس داخلية أو تذاكر لرحلات للنزهة.
ويقول اينجلبيرت لـ"الاقتصادية" إن "الاعتراض الرئيس على الدعم النقدي يأتي من أنه قد يبدو نوعا من أنواع المساعدة التي لا تؤدي إلى تحسين الوضع الاجتماعي للمستفيدين، ثانيا يكون في أغلب الأحيان من الصعب على الحكومات تحديد الأشخاص الذين هم فقراء بالفعل، ويحتاجون إلى مدفوعات نقدية حتى يمكنها تقديم المساعدة المالية للأشخاص المناسبين، وفي دراسة حديثة لبيانات تسع دول في إفريقيا جنوب الصحراء تبين أن نحو نصف الأسر التي تم اختيارها لتلقي الدعم المالي لم تكن فقيرة، بينما لم يتم اختيار نصف الأسر التي كانت فقيرة بالفعل".
مع هذا فإن أغلب الخبراء يرون أن الدعم النقدي له تأثيرات إيجابية تتجاوز المستفيدين منه، ففي حالات الدعم العيني تقوم الحكومات بشراء الطعام أو ما تقدمه لمستحقي الدعم من أماكن أخرى ليست بالضرورة من المقاطعات أو المحافظات التي يقطنونها، بينما في حالة الدعم النقدي فإن عملية الإنفاق تتم في كثير من الأحيان خاصة في المناطق الريفية على الإنتاج المحلي، ما يسهم في تسريع وتيرة دورة النشاط الاقتصادي.
كما تفيد عملية شراء السلع أو الخدمات من التجار والباعة في المحيط الاقتصادية، إلى تحسن مستوى معيشة هؤلاء الباعة، الذين في الأغلب يكونون هم أيضا فقراء، وبذلك تتجاوز البصمات الاقتصادية للدعم النقدي حدود المستفيدين منه بشكل مباشر.
من جانبها، تعتقد الدكتورة ماري أوليفر أستاذة المالية العامة في جامعة أبردين، أن الدعم النقدي - وعلى الرغم من انحياز المؤسسات الدولية له - تتآكل في كثير من الأحيان فاعليته لأن النقد قد لا يكون مفيدا كثيرا، إذ إن بعض الأشياء التي تسهم في تحسين الرفاهية مثل الرعاية الصحية والتعليم، قد لا تكون متاحة في المناطق النائية أو يتعذر الوصول إليها أو تكون ذات جودة منخفضة.
وذكرت لـ"الاقتصادية" أنه "ربما يكون من الأفضل وجود توليفة من الدعم النقدي والعيني في آن معا، أو أن يكون هناك أكثر من نظام متوافر في ذات الوقت داخل المنظومة الاقتصادية الواحدة، إذ يضمن ذلك تحقيق أقصى درجة ممكنة من الرشادة في الإنفاق العام مع ضمان تحقيق الفائدة القصوى من فكرة الدعم ذاته".
المفاضلة بين الدعم النقدي والعيني التي تبدو في كثير من الأحيان أنها تصب في مصلحة الدعم النقدي المباشر، لا تزال تجد رفضا من بعض الخبراء الاقتصاديين الذين يعارضون فكرة الدعم في حد ذاته سواء نقديا كان أم عينيا.
من ناحيته، يرى البروفيسور جوردن أتكنسون أستاذ الاقتصاد في جامعة سالفورد، أن برامج الدعم في أفضل الأحوال يجب أن تمثل حلولا قصيرة المدى، وليس حلا دائما للمشكلة الرئيسة وهي مشكلة الفقر، كما أنه ينتقد بشدة التوسع في برامج الدعم بشقيها النقدي أو العيني، معتبرا أن توزيع الأموال الحكومية على الفقراء سيؤدي في أفضل الأحوال إلى تحسن طفيف في واقعهم ولا يسهم في انتشالهم منه.
وقال أتكنسون لـ"الاقتصادية" إن "جوهر فكرة الدعم قائم على طروحات الرئيس الأمريكي ترومان عام 1949 حينما عد قضية الفقر نقصا في الموارد في المناطق المتخلفة، لكن الفقر ليس مشكلة موارد، فالصين، كوريا الجنوبية، وسنغافورة لم تنجح في انتشال شعوبها من الفقر من خلال الدعم النقدي أو العيني للفقراء، لقد أوجدت الرخاء من خلال إطلاق العنان لقوة الابتكار وريادة الأعمال".
وأضاف "لا شك أن جعل بعض المنتجات أو الخدمات مثل آلات الخياطة وأجهزة الكمبيوتر والخدمات المصرفية السهلة والسلسلة في متناول الجميع يكون له تأثير في المجتمع أكثر فائدة من الدعم، فسهولة الوصول إلى تلك المنتجات لا يعزز معدلات التوظيف فقط، وانما يزيد أيضا عائدات الضرائب، ومن ثم تتمكن الحكومات من تقديم خدمات أفضل".
ويعد البروفيسور جوردن أن إحداث تغيرات ثقافية في ذهنية المجتمع، وليس مجرد توزيع النقود على الفقراء، هو ما يطلق القيم الكامنة في الاقتصاد، ويؤدي إلى القضاء على الفقر ومن ثم لن يكون هناك حاجة لتقديم الدعم.
أفكار من هذا القبيل ربما تعزز الإدراك المتزايد حاليا من قبل الخبراء في مجال التنمية بأن برامج الدعم النقدي أيا كان سخاؤها لن تحدث تحويلا حقيقيا في حياة الفقراء وتجعلهم أغنياء، وأن الارتفاع بمتوسط الدخل لدى الطبقات الفقيرة يتطلب إصلاحا شاملا خاصة في المجال الاقتصادي.
وهذا الإصلاح سيرتكز على ضخ مليارات الدولارات في مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية، باعتبار تلك القطاعات الثلاثة القاطرة الحقيقية لجذب جميع فئات المجتمع خاصة الطبقات الفقيرة إلى مستويات مادية أعلى.