أفغانستان .. العودة إلى نقطة الصفر
عقود من المسير في دائرة الحروب والتسويات السياسية في أفغانستان، لتنتهي رواية الحرب القديمة الجديدة من حيث بدأت، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقالتها صراحة على لسان رئيسها جو بايدن الذي صرح "لماذا أزج بالشباب الأمريكي للدفاع عن دولة لا يريد أهلها أن يدافعوا عنها؟"، الخطاب يمعن في جوهر السياسة الأمريكية في زمن الأزمات، التي لم تتغير منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية "حلفاؤنا يموتون أولا"، هكذا لخص الرئيس بايدن ما يجري من أحداث في أفغانستان، التي شهدت أخيرا انقلابا على السلطات التي جلبتها واشنطن وحلفاؤها، على إثر التحرك العسكري الناتج عن ضربات 11 أيلول 2001، التي كانت بإمضاء تنظيم القاعدة المنظمة الإرهابية رقم واحد عالميا آنذاك.
التحولات التي يشهدها العالم والمرتبطة بسياسات واشنطن، يكمن جوهرها في تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع المستجدات حسب التوجه الحزبي، خصوصا أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أسوأ مراحل العلاقة بينهما من حيث التقارب، تحديدا في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أمريكا، وما بعدها من تراشق للاتهامات بين الرئيسين القديم دونالد ترمب والجديد بايدن.
هذه المؤشرات تفيد بأن الاتكال على واشنطن بشكل كلي يعني أن هذه الدولة قد تتركك إلى من هو أقوى منك يوما ما، دون أي إعانة، وبحجة أنك "لا تملك الإرادة الكافية للقتال"، هذه السياسة يمكن رؤيتها بوضوح أكبر فقط لأن أفغانستان اليوم في أزمة حقيقية، ولأنها أصبحت فيتنام القرن الـ21، لكن معالم هذه السياسة كان يمكن قراءتها كذلك في كل من سورية، والعراق، والمناطق الكردية، وكذلك القرن الإفريقي.
المصلحة الوطنية الأمريكية تقتضي عمل كل شيء، وأي شيء، وواشنطن براجماتية للغاية في هذا الشأن، إذا كان ذلك يعني تحقيق مصالحها بأقل ثمن، وسبق لها أن صافحت أعداء أشد ضراوة وعداوة من طالبان، التي سبق أن فاوضتها في الدوحة أخيرا.
بالمنطق خابت واشنطن في أفغانستان، ولو كانت هنالك اتفاقيات وتسويات مع طالبان من خلف الستار، إذ سبق أن ارتكبت سلسلة من الأخطاء الفادحة، حيث إن ما سبق ويحدث الآن هو مسلسل باهت، وأن وراء الستار كثير من التفاصيل المجهولة، ففي ديسمبر 2019 نشرت مجموعة من الوثائق الداخلية التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" تحت اسم "أوراق أفغانستان" The Afghanistan Papers، وهي تابعة لمكتب المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان SIGAR، هذه الوثائق عبارة عن مقابلات مفصلة أجراها المفتش العام الخاص مع مسؤولين أمريكيين - مدنيين وعسكريين - على الأرض في أفغانستان، بغرض رفع تقرير شامل إلى الكونجرس لتقييم الوجود الأمريكي هناك وتبرير الأموال المدفوعة.
المقاربات ترسم صورة قاتمة وواضحة للخيبة الأمريكية، حيث يعرب أغلب المسؤولين عن عدم اقتناعهم بقدرة الولايات المتحدة على تحقيق النصر في أفغانستان، وأنهم يخوضون صراعا طويلا ومكلفا دون أي إمكانية للنجاح.
وجاءت تصريحات جون سوبكو، المفتش العام الخاص لإعادة الإعمار في أفغانستان، في لقاء مع جمعية مراسلي شؤون الدفاع في الولايات المتحدة، في أواخر يوليو 2021، حيث قال بصريح العبارة "إن الكبرياء والكذب هما أهم أسباب فشل التجربة الأفغانية"، مضيفا "لقد بالغنا، وبالغنا في المبالغة أيضا، الجنرالات بالغوا، السفراء بالغوا، وكل المسؤولين بالغوا"، واتهمهم بالفشل التام في بناء الجيش الأفغاني، وأن المسؤولين العسكريين الأمريكيين كان يدركون ذلك، لكنهم أخفوا هذه المشكلات.
البراجماتية هي سمة هذا العصر، أما الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات المدنية والأساسية، فهي أداة داخلية يتم اللجوء إليها لتحقيق مصالح خاصة بالدول الكبرى، لكن هل هناك تسوية بين طالبان وواشنطن، قبل الحديث عن ذلك لا بد من التوقف عند التصريح الرسمي الصيني الذي تلته هوا تشون ينج الناطقة باسم الخارجية الصينية، تعليقا على سيطرة حركة طالبان على البلاد "الصين تحترم حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره بشكل مستقل، وهي مستعدة لإقامة علاقات صداقة وتعاون مع أفغانستان".
وسبق أن التقى الملا عبدالغني برادر مسؤول المكتب السياسي لطالبان، وانج يي وزير الخارجية الصيني، في العاصمة الصينية بكين، كما ترأس وفد طالبان الملا برادر، الذي قدم للقيادة الصينية تطمينات بأنه لن يساعد على إذكاء نار التيارات الانفصالية لدى أقلية الأيجور المسلمة في إقليم شينجيانج، إذ سيمنح الصين أول امتيازات التنقيب عن معدن الليثيوم النادر المستخدم في صناعة الإلكترونيات، الذي يعتقد أن أفغانستان تجلس على محيط منه.
في 2010 تسربت مذكرة داخلية لوزارة الدفاع الأمريكية حول أفغانستان، تشير إلى العثور على مخزونات هائلة من الموارد الطبيعية تقدر قيمتها الأولية بنحو تريليون دولار "التريليون ألف مليار"، أهم تلك الموارد المكتشفة المشار إليها في المذكرة هو الحديد والكوبالت والنحاس والذهب وعنصر الليثيوم المستخدم بشكل أساس في تصنيع البطاريات، خاصة بطاريات الهواتف الذكية.
هذه الثروة من المعادن المهمة قد تغير اقتصاد أفغانستان بشكل جذري، فالمذكرة أشارت إلى أن أفغانستان قد تصبح "بحر الليثيوم"، وهو أهم المخزونات وأكبرها، التي عثر عليها في البحيرات المالحة في ولاية غزني، شرقي أفغانستان، الواقعة تحت سيطرة حركة طالبان.
منذ ذلك الحين والولايات المتحدة تسعى لإيجاد حل يعيد الاستقرار إلى المنطقة، ويجلب حكومة مواتية لمصالحها تسمح لها ولمستثمريها بتطوير هذه الثروات. اتفاقية السلام التي وقعت أخيرا بين واشنطن وحركة طالبان تأتي في فترة حرجة للاقتصاد العالمي، لأن الصين حاليا هي التي تحدد توجهات أسعار الليثيوم حول العالم، وهي تضغط بقوة لإبقاء السعر منخفضا. صعود أفغانستان كمصدر جديد وغني لليثيوم قد يحرر الأسواق العالمية من قبضة الصين، ويضع الدولة الحاصلة على حقوق التعدين "الولايات المتحدة" في مركز قوة فيما يخص هذا العنصر المهم.