القمامة .. تجارة عالمية لا تبور

القمامة .. تجارة عالمية لا تبور
تقارير: لم تتم معالجة 88 في المائة من القمامة في فيتنام بشكل صحيح.
القمامة .. تجارة عالمية لا تبور
ترتفع أصوات الخبراء مطالبة بالتفكير في القمامة خارج الإطار الكلاسيكي الذي يجعلها بلا قيمة.

النفايات كلمة تقض مضجع زعماء السياسة ورجال الاقتصاد وخبراء البيئة، في الشمال كما في الجنوب، فالإتيان على ذكرها في لقاء أو تقرير أو حديث عابر، يفتح أبواب جدل لا ينتهي. فالمعادلة تفيد بأن التقدم رديف التلوث، لكن الجهود مستمرة بحثا عن حلول أخرى بديلة، تضمن التوفيق بين النزوع نحو التطور والابتكار ومتطلبات الأمن البيئي وضمان الاستدامة للأجيال القادمة.
تزايد السجال بشأن النفايات على الصعيد العالمي يعقد من إمكانية حل هذه المعادلة في المنظور القريب، فالمتابع للنقاشات، في الدول وما بين الحكومات، بشأن سبل تصريف أطنان القمامة التي تنتج فيها بشكل يومي، يدرك مستويات الاشتباك في موضوع ملتبس، يمتزج فيه، وإن كان الأصح يتحالف فيه، السياسي مع الاقتصادي في مواجهة العلمي والبيئي والإنساني.
أخضع الاهتمام المتزايد بقضايا البيئة النفايات لمنطق السوق، فدخلت مجال التجارة محققة لأصحابها عوائد مغرية، بفضل ازدهار الاستيراد والتصدير. وبدأت التهم باتباع "سياسات سامة" توجه إلى هذه الدول أو تلك، واتسع نطاق شبكات دولية تشكل "مافيا النفايات"، وبينهما صوت ثالث يطالب بالعناية بالنفايات، هذا "الكنز غير المستغل" بتعبيره.

استيراد التلوث

وضع النفايات في الحاوية لا يعني فقدان قيمتها، فهناك إمكانات عديدة للتعامل معها، حسب طبيعتها، فقد تصبح قابلة للاستخدام، بإعادة تدويرها مرة أخرى، وقد تخضع للتحول، فتصبح مصدرا للطاقة عن طريق عملية الحرق. ويمكن أن تصير إلى نهايتها، بالدفن في مكان خال. أيا يكن المصير الذي تلقاه النفايات، فلن يخرجها عن دائرة التجارة، فهذه الاحتمالات الثلاثة تبقيها ضمن دائرة التجارة، محليا داخل الدولة الواحدة، أو عالميا فيما بين الدول.
ترسل دول الاتحاد الأوروبي وحدها سنويا ملايين الأطنان من النفايات نحو إفريقيا وآسيا، فالأرقام تتحدث عن إنتاج أكثر من ثلاثة مليارات طن كل عام، تم تصدير 41.1 مليون طن إلى الخارج 2018، بقيمة إجمالية وصلت إلى 16.6 مليار يورو. مبلغ كفيل بإثارة السؤال عن دواعي التصدير، فلو لم تكن تكلفة تدويرها مرتفعة جدا، أو التخوف من أضرار عملية على البيئة المحلية، لما غادر الحدود الأوروبية نحو الخارج.
وقد سبق للألماني جيرد مولر وزير التعاون الاقتصادي والتنمية، أن تساءل عن أسباب إرسال قمامة "الفردوس الأوروبي" إلى العالم الثالث، "لا أحد يستطيع أن يفسر للمواطنين في إفريقيا وآسيا السبب وراء تراكم قمامة الرفاهية الأوروبية لديهم"، متسائلا عن مدى حقيقة استفادة الدول المستوردة للقمامة، في وقت تكابد فيه مع نفاياتها الخاصة.
تعد الصين وتركيا والهند وماليزيا الوجهات المفضلة لاستقبال القمامة الأوروبية، تليها في الدرجة الثانية دول مثل الفلبين وإندونيسيا وفيتنام، ودول شمال إفريقيا كالمغرب وتونس ومعظم دول إفريقيا جنوب الصحراء. وأحيانا، قد لا تخرج القمامة من نطاق الاتحاد الأوروبي، متى كان مردود التدوير أعلى من تكلفته. فألمانيا مثلا تستورد نفايات معينة من بريطانيا، ذات الضرائب المرتفعة على القمامة، بغرض حرقها للحصول على الطاقة الكهربائية، وتفيد بيانات اتحاد البيئة الألماني بأن برلين استقدمت العام الماضي 3.5 مليون طن من النفايات.

مافيا النفايات

يبقى الفارق بيّن بين استيراد نفايات معينة لأغراض محددة مثلما تقوم به ألمانيا، وبين تحويل أراضي هذه الدول إلى مكب للنفايات يستقبل قمامة الدول الغنية. كان هذا واقع حال الصين، قبل أن تقرر 2018 حظر واردات النفايات من الخارج، بعدما أدركت حجم المخاطر التي تهددها، فمكب نفايات جيانجكونجو في مدينة شيان الصينية صمم 1994 على مساحة 700 ألف متر مربع بعمق 150 مترا، وكانت التوقعات تفيد بصلاحيته للعمل حتى 2044، قبل أن يتبين أنه قد يمتلئ قبل الموعد المحدد بنصف المدة، بعدما صار يستقبل يوميا 2500 طن من النفايات.
تدرس تركيا بدورها حظر استيراد النفايات، بعدما سارعت إلى تعويض الصين في استقبال نفايات دول أوروبية، فصادرات المملكة المتحدة إلى تركيا من النفايات البلاستيكية وحدها، زادت من 12 ألف طن 2016 إلى نحو 210 أطنان 2020، وهذا ما يعادل 30 في المائة من النفايات البلاستيكية للمملكة. قبل أن تكتشف أن مصير هذه النفايات ليس إعادة التدوير، إنما الحرق أو القذف بها في الشواطئ. فمعدل تدوير البلاستيك المحدد بـ12 في المائة في تركيا، ضعيف جدا مقارنة بـ240 شاحنة من النفايات البلاستيكية التي تدخل إلى تركيا يوميا من أوروبا.
مغاربيا، أثارت قضية النفايات القادمة من إيطاليا نحو المغرب 2016، وتجدد الأمر في تونس العام الماضي، أزمة رأي عام، بعدما رست سفينة إيطالية محملة بنحو 2500 طن من النفايات الإيطالية في أحد الموانئ المغربية، باعتبار دخولها ضمن المصرح به رسميا من واردات المغرب من النفايات السنوية التي تصل إلى 450 ألف طن، قبل أن يتبين عكس ذلك، ما أدى إلى إعادتها إلى الدولة المرسلة لها، وإعفاء وزيرة البيئة حينها من مهامها، ومنعها من تقلد أي منصب أو مسؤولية في المستقبل.
في غرب إفريقيا، تستقبل نيجيريا نحو 60 ألف طن من النفايات الإلكترونية سنويا، تأتي 77 في المائة من دول أوروبية، بطرق غير شرعية. فالتقارير تتحدث عن إرسال النفايات السامة في حاويات تتضمن سيارات مستعملة. ما يعني أن أوروبا في هذه الحالة تهرب نفاياتها، وهذا يجعلها في الخارج عن القانون، فهذه الممارسات تنافي مقتضيات اتفاقية "بازل" 2002.

كنز غير مستغل

ترتفع أصوات الخبراء داخل القارة العجوز، مطالبة بالتفكير في القمامة خارج الإطار الكلاسيكي الذي يجعلها بلا قيمة، ما يفرض على الأوروبيين الدفع مقابل التخلص من أطنان من النفايات سنويا. يذكر أن الأوروبيين من الشعوب الأكثر إنتاجا للقمامة في العالم، فإحصائيات الأعوام الماضية تفيد تصدر الدنمارك القائمة بمعدل 777 كيلو جراما لكل مواطن، تليها النرويج في المركز الثاني، بنحو 754 كيلو جراما لكل شخص، ثم هولندا بمعدل 720 كيلو جراما لكل شخص. تبقى هذه الأرقام أعلى بكثير من المعدل الأوروبي المحدد بنحو 480 كيلو جراما من القمامة، وهو ما تقترب منه اليونان "497 كيلو جراما" وإيطاليا "495 كيلو جراما" وإسبانيا "443 كيلو جراما".
راهنا لا يزال تعاطي الأوروبيين مع القمامة بسيطا، رغم بعض التجارب النوعية هنا وهناك، تبقى المؤشرات داخل الاتحاد الأوربي ضعيفة بشأن تبني حلول مبتكرة ومستدامة لمواجهة آلاف النفايات يوميا. فالنسب تفيد بأن التعامل مع النفايات يكون إما بإعادة تدويرها، وهذا ما يمثل 30 في المائة من النفايات، أو عملية الحرق بنسبة 27 في المائة، أو تصل القمامة التي تودع في مقالب النفايات إلى 25 في المائة، وتستخدم منها 17 في المائة كسماد.
تبقى الدنمارك ضمن التجارب الرائدة في هذه المجال، فهي الأولى أوروبيا من حيث إنتاج الطاقة الخضراء من النفايات، فنحو 15 في المائة من الكهرباء يتم توليدها من إعادة تدوير المخلفات، رغم تصنيفها ضمن الدول الأكثر إنتاجا للقمامة. نقيض واقع الحال في جل الدول النامية المستقبلة للنفايات، إذ تشير "الإنتربول" إلى أنه لم تتم معالجة 88 في المائة من القمامة في فيتنام بشكل صحيح، والنسبة مماثلة في الهند "87 في المائة"، وإندونيسيا "83 في المائة". أي أن هذه النفايات المستوردة لم تتم الاستفادة منها أو تدويرها بشكل صحيح، إنما أثقلت كاهل البيئة في هذه الدول، نظير مبالغ زهيدة تدفع قصد التخلص منها.

الأكثر قراءة