الحرب السيبرانية وتوجهاتها الاستراتيجية

لم ينج العالم السيبراني من مسألة الحرب كما هو الحال في العالم المادي المعتاد. فحيثما يوجد الإنسان يظهر التنافس، ويبرز الصراع، وتحدث الحروب، دون أن ينفي ذلك جانب الصلح، والتعاون، والوئام. فالخير والشر، والأبيض والأسود، وما بينهما، أمور معتادة عبر الزمان، وفي كل مكان. ولأن العالم السيبراني امتداد للعالم المادي، لكن بوسائل رقمية، فإن الحرب السيبرانية تختلف عن الحرب المادية في أنها محصورة في هذه الوسائل. لكن لا بد من القول هنا: إن هذه الوسائل باتت مؤثرة في شتى نواحي الحياة، ومختلف مجالات العمل، بما في ذلك ارتباطها بالبنى الأساسية الحرجة للدول وتحكمها فيها. والخلاصة هنا أن الحرب السيبرانية حرب محصورة من حيث الوسائل، لكنها واسعة ومؤثرة في مختلف جوانب الحياة.
وكما هو حال الحروب في العالم المادي، فإن الحروب في العالم السيبراني ليست بالضرورة شاملة، بل ربما تتمثل في معركة هنا وهناك، أي هجوم واختراق سيبراني هنا وما يماثله هناك. وإذا نظرنا إلى حالات الحرب السيبرانية، لوجدنا أنها كانت دائما حوادث هجوم واختراقات متفرقة، ولم تصل أبدا إلى حرب شاملة، كما حدث في الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الـ 20، لكن ذلك لم يمنع بعض الدول من السعي إلى إعداد نفسها لحروب سيبرانية شاملة، بما في ذلك وجود قدرات سيبرانية للدفاع تكشف حوادث الهجوم وتتصدى لها، وتستعد لهجوم مضاد يردع العدو عن أي تحد يخطر على باله.
ولأن الحرب السيبرانية مرتبطة بالتقنية الرقمية، فالأسلحة المطلوبة لها بعيدة عن الدبابات والطائرات والسفن والقنابل والمدافع والصواريخ، ورجال يغزون هذه الأرض أو تلك، وإنما هي برامج ذكية تخترق البنى الحاسوبية لإلحاق الأضرار بها وبما يرتبط بها. وعلى ذلك، فإن توازن القوى بين الدول لم يعد مرتبطا بالحجم والغنى، بل إن كل أمة مهما صغرت تستطيع أن تكون قوة سيبرانية، ربما عدوانية، أو قادرة على ردع عدوان الآخرين. لكن لا بد من القول هنا: إن في حالات عدم التوازن السيبراني، قد تلجأ الدول القادرة إلى تحويل الحرب السيبرانية إلى حرب حقيقية.
بعد ما سبق، لعل من المناسب طرح تعريفين متداولين لتعبير الحرب السيبرانية، أحدهما من معجم أكسفورد Oxford، والآخر من الموسوعة البريطانية Britannica. يقول تعريف الموسوعة: "إنها حرب مصدرها حواسيب مرتبطة بشبكات ومقصدها كذلك أيضا، وتشن من قبل دول أو وكلاء لها ضد دول أخرى، وتشن عادة ضد شبكات حكومية وعسكرية، من أجل تعطيلها أو تحطيمها ووقف استخدامها". أما تعريف أكسفورد فيقول: "إنها استخدام تقنيات الحاسوب لتعطيل نشاطات دولة أو مؤسسة، خصوصا عبر هجوم مقصود على أنظمة المعلومات من أجل تحقيق غايات عسكرية أو استراتيجية".
وفي سبيل إلقاء الضوء على جوانب الاستعداد للحرب السيبرانية، سنطرح فيما يلي ملامح الاستراتيجية السيبرانية التي أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية عام 2018، وأتاحت الاطلاع عليها عبر الإنترنت. وسنتطرق في هذا المجال إلى توجهات العمل الخمسة التي حددتها. وقد يكون من المناسب هنا ربط هذا الأمر بأحد متطلبات الاستراتيجية الوطنية الأمريكية العامة للأمن السيبراني التي طرحناها في مقال سابق. فقد قضى هذا المتطلب بالمحافظة على إمكانات سيبرانية متفوقة، لأنها يمكن أن تكون وسيلة لتقديم مبادرات سلام من جهة، ووسيلة أيضا للردع عند الحاجة من جهة أخرى. وتتوافق توجهات استراتيجية الدفاع السيبراني المطروحة مع هذا المتطلب المهم.
يتضمن التوجه الأول من التوجهات الخمسة الرئيسة للاستراتيجية السيبرانية لوزارة الدفاع الأمريكية بناء قوة سيبرانية أكثر فاعلية، أي: إنه يستهدف تحسين الإمكانات السيبرانية. ويتضمن الطريق المأمول نحو تحقيق ذلك تسريع تطوير الإمكانات السيبرانية، وتعزيز الابتكار في مجال رشاقة الحماية وسرعة الاستجابة لمواجهة المخاطر، والسعي إلى فاعلية أكبر في الأتمتة وتحليل البيانات، إضافة إلى إدراك الحالة الراهنة والاستفادة مما هو متاح فيها في دعم المسيرة على هذا الطريق. ويحمل التوجه الثاني للاستراتيجية المذكورة عنوانا يقول: "المنافسة والردع"، أي المنافسة مع الأعداء والقدرة على ردعهم في حال حدوث أي هجوم من جانبهم. وتشمل الاستجابة لهذا التوجه استيعاب النشاطات الخبيثة ومضامينها، ومتابعة ما يجري بشأنها يوميا، ويضاف إلى ذلك زيادة الاهتمام بالبنية الأساسية الحرجة وجعلها أكثر قدرة على التكيف Resilience للتعامل مع الأحداث الصعبة.
ونأتي إلى التوجه الثالث الذي يهتم بالتحالفات والشراكة مع الجهات التي تتمتع بقدرات متميزة من أجل تعزيز القوة السيبرانية في مواجهة التحديات. وتشمل مثل هذه الجهات: القطاع الخاص ودولا أخرى، إضافة إلى الأمم المتحدة، بهدف تفعيل السلوك المسؤول للدول في العالم السيبراني، والابتعاد عن الحروب السيبرانية. ونصل إلى التوجه الرابع، وهو توجه يهتم بإعادة تكوين البيئة الداخلية لمنظومة الدفاع السيبراني. ويشمل ذلك موضوع تعزيز الوعي السيبراني وثقافة الحماية بين العاملين في مجال الدفاع، والارتقاء بمستويات مسؤولياتهم تجاه الأمن السيبراني، والحرص على أن يكون هناك دور للجميع في هذا المجال، إضافة إلى شراكة الجميع في البحث عن حلول منيعة ومرنة ومعقولة التكاليف للمشكلات السيبرانية.
ونصل إلى التوجه الخامس وشعاره تنمية المواهب في مجال الأمن السيبراني. وتتسلسل متطلبات الاستجابة لهذا التوجه في: أولا المحافظة على الثروة البشرية المتوافرة، وثانيا دعم المواهب الوطنية بالتأهيل والخبرة، وثالثا تفعيل دور الخبراء ومسؤولياتهم، ورابعا إدارة المواهب إدارة حسنة للاستفادة من الإمكانات على أفضل وجه ممكن.
وهكذا نجد أن استراتيجية الاستعداد للحرب السيبرانية، من أجل الحماية من أي عدوان، تحتاج إلى قوة سيبرانية، تنعم بالقدرة على المنافسة والردع، وتستطيع إيجاد حلفاء وشركاء من الداخل والخارج يسهمون في الحماية، وتتمتع ببيئة حماية تتميز بالوعي والمسؤولية وإعطاء دور في الحماية لكل فرد، فضلا عن السعي إلى تنمية المواهب والخبرات وإدارتها إدارة حسنة تفعل الإبداع والابتكار. والخلاصة أخيرا أن تأمين هذه المتطلبات أمر مستمر يبدأ، لكن لا ينتهي، بسبب التقدم العلمي ومعطياته المتجددة، وتفاعله مع شؤون التنافس والصراع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي